الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فهذه جملة من الانتقادات على الشيخ عدنان عبد القادر في كلامه حول القراءة بالألحان والتمثيل والغناء
أولا:
تصحيحه لأثر ابن عباس في الألحان وحمله على إسناد أثر عبيد بن عمير
قال عدنان: (ورد قول ابن عباس رضي الله عنه ان داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لحناً في اشهر الكتب لدى طلبة العلم ولدى العامة، اذ ورد في فتح الباري وهو اشهر كتاب متداول بين طلبة العلم، قال الحافظ بن حجر (قال عمر بن شبه: ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة – أي للحديث – فقال: لم يصنع شيئا، حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال: كان داود عليه السلام يتغنى – حين يقرأ – ويبكي ويبكي، وعن ابن عباس ان داود عليه السلام كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم). الفتح (71/9). قوله (وعن ابن عباس) يعود العطف على اقرب معطوف عليه وهو عبيد بن عمير، أي هذا السند عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. وهذا سند صحيح وابن جريج ثقة مدلس، واذا روى عن عطاء فهو محمول على السماع كما صرح بنفسه: «اذا قلت قال عطاء فأنا سمعته منه وان لم اقل سمعت». انظر الارواء (244/4).
وورد نفس هذا اللفظ في زاد المعاد لابن القيم وهو كذلك من اشهر الكتب المتداولة. (489/1). وفي قصص الانبياء للثعلبي قال في قصة داود عليه السلام): (ولم يعط الله احدا من خلقه مثل صوته، وكان يقرأ الزبور بسبعين لحنا). (244(L
الانتقاد:
1- نقله عن ابن حجر في الفتح مع أن ابن حجر إنما هو ناقل عن ابن بطال في شرحه للبخاري، فقال ابن حجر: (قال ابن بطال) ثم نقل كلامه، فلماذا لم يرجع عدنان إلى الأصل؟ قلت: لأن فيه أن أثر ابن عباس مغاير لأثر عبيد بن عمير!
2- حمله أثر ابن عباس على الإسناد السابق لعبيد بن عمير خطأ كبير، إذ أن ابن بطال نقل إسناد عمر بن شبة عن عبيد بن عمير، ثم قال: (وقال ابن عباس) فذكره، وأما ابن حجر في الفتح فقال: (وعن ابن عباس) والأثران منفصلان، فأما أثر ابن عباس فقد أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/792) برقم 1097- النسخة المسندة) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (24/46-47) واللفظ له، وجعفر بن محمد الخلدي في «الفوائد والزهد والرقائق» (رقم 6) كلهم من طريق الفرج ابن فضالة قال: أخبرنا أبو هريرة الحمصي عن صدقة الدمشقي أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الصيام، فقال: (لأحدثنك بحديث كان عندي في التخت مخزوناً: إن شئت أنبأتك بصوم داود، فإنه كان صوماً قواماً. وكان شجاعاً لا يفرّ إذا لاقى، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصيام صيام داود. وكان يقرأ الزبور لسبعين صوتاً يلوّن فيها. وكانت له ركعة من آخر الليل. فكان يبكي فيها نفسه، ويبكي لبكائه كل شيء، ويطرب لصوته المهموم والمحموم.).
وهذا إسناد ضعيف جداً؛ الفرج بن فضالة منكر الحديث، وأبو هريرة الحمصي مجهول كما قال ابن عساكر والحسيني وأقرهما الحافظ ابن حجر، ويقال أبو هرم وهو وهم [تعجيل المنفعة 2/554]، وصدقة الدمشقي اخُتلف فيه هل هو ابن عبد الله السمين الضعيف أو غيره؟ رجح ابن عساكر أنه السمين وقال: (وهو الراجح عندي)، وقال الحسيني: (لعله صدقة بن عبد الله السمين، فإن يكن هو فليس من شرطنا، وإلا فلا أعرفه) [تعجيل المنفعة 1/664]
وقد ذكره في كنز العمال (8/665) وقال عقبه: (وفيه فضالة الفرج بن فضالة ضعيف).
والحكيم الترمذي ذكر أثر ابن عباس ثم ذكر على إثره أثر عبيد بن عمير بإسناد آخر.
وأما أثر عبيد بن عمير فقد أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (2/481) وابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/322) وأبو عوانة في «مسنده» (2/482) والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/792) والفاكهي في «أخبار مكة» (3/24) كلهم عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير أنه قال: (كانت لداود نبي الله معزفةٌ يضرب بها إذا قرأ الزبور …). هكذا بذكر «المعزفة»، وأما ابن حجر فلم يذكر «المعزفة» بل قال: (كان داود عليه السلام يتغنى يعني حين يقرأ ويبكي ويبكي) مع كونه ناقلاً عن ابن بطال، فلعله نقله بالمعنى، ولا أدري لماذا ترك عدنان لفظ ابن بطال الذي هو الأصل وفيه ذكر المعزفة، والظن أنه نقله عن ابن حجر لأنه صحح الإسناد فخشي أن يُستدل عليه بصحة المعازف والله أعلم.
3-الثابت في أثر ابن عباس هو لفظ (سبعين صوتاً) لا (لحناً) كما هو في نوادر الأصول وتاريخ دمشق وكنز العمال، وأما لفظ (اللحن) فإنما نقله ابن بطال وتبعه عليه ابن القيم وابن رجب وابن حجر. وهذا يدل على أن المراد بهذه السبعين إنما هي أصوات مختلفة لا ألحان ومقامات، ويدل على ذلك أيضاً أمور:
منها: ما ذكره وهب بن منبه عن دواد عليه السلام فيما أخرجه الطبري وغيره : (ولم يعط الله – فيما يذكرون – أحدا من خلقه مثل صوته ، كان إذا قرأ الزبور – فيما يذكرون – تدنو له الوحوش حتى يأخذ بأعناقها ، وإنها لمصيخة تسمع لصوته ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج ، إلا على أصناف صوته). فهذا بيان أن المراد بالمزامير ألوان وأنواع صوت داود عليه السلام لا أنها مقامات.
ومنها: أن هذه المزامير منحة من الله تعالى خص بها داود عليه السلام، ولذلك قال في حديث أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فقوله (أوتيت) يدل على أنه من الله تعالى لا يحصل بالتعليم، إذ لو كانت هذه المزامير مقامات يتعلمها الإنسان لما خصّ بها داود عليه السلام ولأمكن كل واحد تعلمها، وهذا خطأ إذ أن صوت داود عليه وجمال قراءته جعلت الطير والجبال تسبح معه.
ثانياً
إلزامه لمن ضعّف أثر ابن عباس في الألحان أن يضعّف أثره في الكرسي.
قال عدنان: (ملاحظة: ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكر هذا هو الذي ذكر ان الكرسي موضع القدمين. فإن رددت قوله في الالحان فاردده في الكرسي).
الانتقاد:
1- هذا فتح باب لأهل البدع للطعن في معتقد أهل السنة والجماعة!!!
2- شتان بين أثر ابن عباس في الكرسي وهذا الأثر المنكر، والفروق بينهما كثيرة:
أ- أثر الكرسي صحيح ثابت بأصح الأسانيد عن ابن عباس، وأثر الألحان منكر تالف.
ب-أثر الكرسي يتعلق بصفة من صفات الله تعالى، وأثر الألحان يتعلق بنبي من الأنبياء، ومعلوم أن الخبر عن الله تعالى أعظم، ووجوب التثبت فيه أظهر، واما الأنبياء فالأمر فيه أوسع ما لم يخالف ما جاء في الكتاب والسنة. وابن عباس كان معروفاً بالرواية عن أهل الكتاب.
ت-أثر الكرسي تفسير آية من كتاب الله، وقد ذكر الحاكم في «علوم الحديث» أن تفسير الصحابي له حكم الرفع إذا لم يُخالف، فكيف إذا كان تفسير صفة من صفات الله.
ث-أثر الكرسي تلقاه أهل السنة والجماعة بالقبول، وذكروه في كتب العقائد مثبتين لله تعالى ما دل عليه، بخلاف أثر الألحان المنكر.
ثالثاً
استدلاله على صحة الأثر بوجوده في الكتب.
قال عدنان: (ورد في فتح الباري وهو اشهركتاب متداول بين طلبة العلم) وقال: (وورد نفس هذا اللفظ في زاد المعاد لابن القيم وهو كذلك من اشهر الكتب المتداولة) وقال: (وما كأنه موجود في كتاب معتمد).
الانتقاد:
1- هذه حجة المفلسين من أهل البدع الذين يستدلون بصحة الرواية بكونه موجوداً في كتاب متداول، ومعلوم أن وجود أثر ما في كتاب متداول –على حد تعبيره- لا يستلزم صحة ولا ضعفاً، ما لم يتلقاه أهل العلم بالقبول، ففي الكتب المتداولة المناكير والموضوعات أحياناً، وغيرها مما يُذكر في حجج المخالف، أو غير ذلك، وهذا هو صنيع ابن حجر وابن القيم، فإنهما نقلا حجة من أجاز القراءة بالألحان فنقلا عن ابن بطال، فهل يستلزم هذا تصحيحهما لهذا الأثر!!!
2- عجيب هذا الصنيع، عدنان يضعف حديث صيام ست من شوال وهو في أصح الكتب بعد كتاب الله وقد تلقاه أهل العلم بالقبول، ولم يعتبر كونه في صحيح مسلم، ويعتبر في الوقت نفسه أثر ابن عباس غير المسند في زاد المعاد وفتح الباري ويصححه!!!!
ثالثاً
إقحامه للعلماء في الجرأة على تضعيف أحاديث الإمام مسلم وتشكيكه للقارئ في صحة أحاديثه
قال عدنان: (وللعلم: سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ما قولكم في حديث الجساسة في صحيح مسلم؟فأجاب: (قولنا فيه: ان النفس لا تطمئن الى صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما في سياق متنه من النكارة. وقد أنكره الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره انكاراً عظيماً. لأن سياقه يبعد أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.ثم سئل الشيخ: هل قال به أحد من السلف قبل محمد رشيد رضا؟
فأجاب: (لا أعلم، لكنه ما هو شرط، وأنا لم أتتبع أقوال العلماء فيه، لكن في نفسي منه شيء). الباب المفتوح (اللقاء الثامن). والباب المفتوح يحضره الصغير والكبير، وكذلك غير طالب العالم.
فهل ستحكم على الشيخ ابن عثيمين بالشذوذ؟ وهل سترد عليه وتتهكم به؟ وهل حديث الجساسة من الأحاديث المنتقدة؟ أنا بانتظار ردك عليّ الشيخ؟!
ولا أريد أن أجمع لك بعض الأحاديث التي انتقدها الشيخ الألباني وهي في هامش مختصر صحيح مسلم، وهذا الكتاب منتشر في أغلب مساجد الكويت أي يقرؤه عموم الناس، وكذا منها ما هو في السلسلة الضعيفة، وأخرى في آداب الزفاف المؤلف للعموم. فهل ستحكم عليه بالشذوذ، وترد عليه وتتهكم به؟ هؤلاء علماؤنا.)
الانتقاد:
1- هذا في الحقيقة نوع من التشكيك في صحيح مسلم، وفتح باب لانتقاده.
2- الشيخ ابن عثيمين لم يجزم بضعف حديث الجساسة بل قال: (في النفس منه شيء) وأما عدنان فجزم بضعف حديث شوال ونافح وقاتل على ضعفه، بل ودعا ونشر وأذاع، فشتان بين الفعلين.
3- الألباني مجتهد في الحديث يُقبل منه ما لا يُقبل من غيره، ولو مشينا على هذه الطريقة لضعفنا رجالا ما سبقنا أحد إلى تضعيفهم ووثقنا آخرين ما سُبقنا في توثيقهم بناءاً على أن فلاناً من الحفاظ والمجتهدين وثق وضعّف!!! فرق بين المجتهد الحافظ وبين طلبة العلم والأغمار.
رابعاً
حمله لمعنى التغني والترنم والمزامير على الغناء المعهود اليوم بالمقامات الموسيقية وعدم رجوعه لكتب اللغة
قال عدنان: (فهذا رسول الله صلىالله عليه وسلم وابن جرير وابن حجر ذكروا القراءة بالترنم) (فهذا ابن عباس رضي الله عنه وابن جرير وابن القيم وابن حجر ذكروا التطريب بالقراءة) (وفسر ابن جرير التغني بالغناء) (فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على التغني بالقرآن وهو الغناء كما فسره ابن جرير والامام أحمد وغيرهما) (المزمار وقراءة القرآن: … والمزمار نسميه الآن الموسيقى) (الحث على التغني بالقرآن يقتضي تعلم طرق التغني وهي مزامير آل داود) (أما القراءة على قوانين النغم والذي يسمى الآن بالمقامات ويسمى في السابق بالألحان، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم مزامير آل داودفقد اختلف السلف في ذلك). وقال : (وكرر –أي ابن القيم- لفظ التطريب بالقرآن أكثر من مرة فقال «التطريب والتغني» وقال: «التطريب والتلحين فذلك جائز»،وقال: «التطريب في القراءة». قال ابن جرير في حديث الترنم بالقرآن: «ان الترنم لا يكون الا بالصوت اذا حسنه المترنم وطرب به»).
وقال: (ففيه الحث على معرفة هذه المزامير والقراءة بها). فجعل المزامير هي المقامات وليست الأصوات.
الانتقاد:
أولا: لا بد من معرفة معاني هذه الألفاظ في اللغة لا مما هو معهود في عرف الناس وإليك البيان:
1-أصل مادة (غني) من الصوت، قال ابن فارس في «معجم مقاييس اللغة»: (الغين والنون والحرف المعتل أصلان صحيحان، أحدهما يدل على الكفاية، والآخر الصوت، …والأصل الآخر: الغناء من الصوت، والأغنية: اللون من الغناء)
وقال في تاج العروس: ((والغِناءُ ، ككِساءٍ ؛ من الصَّوْتِ : ما طُرِّبَ به) قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْر: وعَجِبْتُ به أَنَّى يكونُ غِناؤُها، وفي الصِّحاح : الغِناءُ ، بالكسْرِ ، من السماعِ . وفي النِّهايةِ : هو رَفْعُ الصَّوْتِ وموالاته . وفي المِصْباح : وقيِاسُه الضَّم لأنَّه صَوْتٌ).
2- أصل مادة (طرب):
قال في «معجم مقاييس اللغة»: (وطرّب في صوته: إذا مده).
وقال في «تاج العروس»: (والتَّطْرِيب في الصَّوْت: مَدُّهُ وتَحْسِينُه . وطَرَّبَ في قِراءَته : مَدَّ ورجَّعَ وطرَّبَ الطَّائِرُ في صَوْتِه كَذَلِكَ ، وخَصَّ بَعْضُهُم بِهِ المُكَّاءَ . وفُلَانٌ : قَرأَ بِالتَّطْرِيب).
3- أصل مادة (رنم)
قال في «معجم مقاييس اللغة»: ((رنم) الراء والنون والميم أصل صحيح في الأصوات، يقال: ترنم، إذا رجّع في صوته).
وقال في «الصحاح»: (الرَنَمُ بالتحريك: الصوت. وقد رَنِمَ بالكسر وتَرَنَّمَ، إذا رجَّع صوته. والترنيم مثله. وتَرَنَّمَ الطائر في هديره).
وقال في «تاج العروس»: (( و ) الرَّنَم ( بالتَّحْرِيك : الصَّوتُ ) . وقد رَنِم بالكَسْر : إذا رَجَّع صَوْتَه كما في الصحاح ، ( والرَّنِيم والتَّرْنِيم : تَطْرِيبُه ) كما في المُحْكَم وقال الجوهريّ : والتَّرْنِيم : تَرْجِيعُ الصَّوت).
4- أصل مادة (نغم)
قال في «تاج العروس»: (النَّغَمُ : مُحَرَّكَةً ، وتُسَكَّنُ : الكَلاَمُ الخَفِيُّ ، الوَاحِدةُ بِهَاءٍ ) ، قَالَ شَيْخُنَا : فَمُفْرَدُهُ تابَعٌ لِجَمْعِه في الضَّبْطِ ، انتهى ، وفُلاَنٌ حَسَنُ النَّغْمَةِ ، أي : حَسَنُ الصَّوْتِ في القِرَاءَةَ ، كَمَا في الصَّحَاحِ).
5- أصل مادة (زمر)
قال في «تهذيب اللغة»: (( أنه أوتي مزماراً من مزامير آل داود ) أي : أوتي صوتاً حسناً كأنه صوت داود).
وقال ابن الأثير في «النهاية»: (وفي حديث أبي موسى سَمِعه النبي صلى اللّه عليه وسلم يقرأ فقال: «أُعْطِيتَ مزْمارا من مَزَامِير آلِ دَاودَ». شبَّه حُسنَ صَوته وحلاوة نَغْمَته بصوت المِزْمارِ . وداودُ هو النبي عليه السلام وإليه المُنْتَهى في حُسْن الصَّوت بالقراءةِ).
إذا تبين هذا فهذه الألفاظ كلها: التغني والتطريب والترنم، إنما تعني تحسين الصوت وترجيعه، وكذلك وصفه صوت داود عليه بالمزامير، أي في حسن الصوت عند السامع كأنه صوت مزمار.
ثانياً: تفسير هذه الألفاظ بتحسين الصوت والقراءة بالترجيع وغيره هو الذي ذكره من يجيز الصلاة بالألحان، ولم يذكر أحد منهم أنها القراءة بالمقامات الموسيقية وقد نقل عنهم عدنان نفسه:
قال ابن جرير :(معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع صوته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه)
وقال ابن القيم: ((ان السلف كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجىً تارة، وبطربٍ تارة، وبشوق تارة. وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع معشدة تقاضي الطباع له، بل أرشد اليه وندب اليه)
وقال ابن حجر: (يحسن به صوته جاهراً به مترنماً على طريق التحزن.. ان النفوس تميل الى القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم. لأن للتطريب تأثيراً في رقة القلب واجراء الدمع).
خامساً
حمله لكلام ابن القيم وابن رجب وابن حجر على خلاف مرادهم، بل وحذف ما يبطل فهمه. وذلك أن عدنان أراد أن يحمل الخلاف الذي ذكره ابن القيم وابن رجب وابن حجر على أنه دائر بين جواز القراءة بألحان الموسيقى وعدمه، بينما القراءة بالألحان الموسيقية خارجة عن محل النزاع وقد نصوا على ذلك ولكنه حذفه ولم يُشر إليه.
قال عدنان: (من العلماء من لا يرى جواز تعلم التغني كابن القيم ويرى المنع وانما الجائز عنده ما جاء طبيعة وسليقة. ومنهم من يرى الجواز عموماً وان كان بتعلمه وتكلفه. وذكر ابن القيم الخلاف في ذلك في الزاد وكذا ابن رجب في نزهة الأسماع) (ونسب ابن القيم القول بالتكلف والتعمل الى أصحاب القول الأول. الزاد (490/1). وهم الشافعي وأبوحنيفة وابن جرير وابن المبارك والنضر بن شميل وغيرهم).
الانتقاد:
أخرج ابن القيم القراءة بألحان الموسيقى عن محل النزاع بين السلف في القراءة بالألحان، بل إنه قد ذكر في حجج المانعين منه أنه يُفضي إلى أنه يُقرأ القرآن بألحان الموسيقى وهو محرم بالإجماع.
قال ابن القيم في ذكر حجج المانعين: (وإن لم يُحد بحد أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات وكثرة الترجيعات والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء كما يفعل أهل الغناء بالأبيات وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ويفعله كثير من قراء الأصوات مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء اجتراء على الله وكتابه وتلاعبا بالقرآن وركونا إلى تزيين الشيطان ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ومعلوم أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام).
ثم قال بعدما ذكر حجج الفريقين: (وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغني على وجهين أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز …. فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود …
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره).
ثم قال: (وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرءونه بشجى تارة وبطرب تارة وبشوق تارة وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه وندب إليه).
وهذا لم يذكره عدنان في مقاله وهو يفسر ويوضح كلام ابن القيم وأن القراءة بألحان الموسيقى خارجة عن محل النزاع.
وقال ابن رجب: (وكان قد حدث قبل ذلك حدثان: أحدهما قراءة القرآن بالألحان بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته على طريقة أصحاب الموسيقى فرخص فيه بعض المتقدمين إذا قصد به الاستعانة على إيصال معاني القرآن إلى القلوب للتحزين والتشويق والتخويف والترقيق، وأنكر ذلك اكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعا ولم يثبت فيه نزاعاً منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة.
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيج الطباع وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن لا بقراءة الألحان وبينهما بون بعيد).
وقال ابن حجر: (ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم). فحمل عدنان كلامه على ألحان الموسيقى والغناء، بينما الذي يظهر أن مراده بالنغم كما سبق بيانه هو طرق التحسين للصوت لأن النغم لغة: الصوت. لا أن النغم يراد به الألحان الموسيقية.
سادساً
تعميمه الحكم في الأناشيد وتجويز أدائها بألحان الموسيقى ونسبة ذلك إلى الأئمة مهملاً تقييد العلماء الذين أجازوا القصائد الزهدية بأن لا تكون بألحان أهل الفسق، ولم يُشر إلى هذا المعنى وحذف كلامهم الدال على ذلك موهماً تجويزهم له.
قال عدنان: (فإذا جاز على قول مجموعة من العلماء قراءة القرآن بالألحان كما ثبت بالأدلة وكقول ابن حجر «على قوانين النغم» ألا يجوز ذلك في الأشعار الزهدية).
بل لم يذكر فيمن حرم الأناشيد بألحان الغناء إلا الشيخ ابن عثيمين فقط فقال: (فللشيخ ابن عثيمين رأي بينما لابن الجوزي وابن رجب والشيخ ابن اباز واللجنة الدائمة ومجموعة من العلماء ذكرهم ابن رجب لهم رأي آخر ولكن بالضوابط المذكورة فلماذا التشنيع؟!)
الانتقاد
– لم يذكر أحد من العلماء جواز الأناشيد والقصائد الزهدية إذا لحنت بألحان الموسيقى وشابهت غناء أهل الفجور، بل نصوا على تحريمها إذا كانت على هذا النحو، وممن ذكر ذلك ابن رجب وكل من زعم عدنان أنهم يجيزونها.
قال ابن رجب: (فهذا الشعر إذا لحن وأخرج بتلحينه على وجه يزعج القلوب ويخرجها عن الاعتدال ويحرك الهوى الكامن المجبول في طباع البشر فهو الغناء المنهي عنه، فإن أنشد هذا الشعر على غير وجه التلحين فإن كان محركا للهوى بنفسه فهو محرم أيضا لتحريكه الهوى وإن لم يسم غناء فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك فإنه ليس بمحرم وإن سمي غناء وعلى هذا حمل الإمام أحمد حديث عائشة رضي الله عنها في الرخصة في غناء نساء الأنصار وقال هو غناء الركبان أتيناكم أتيناكم يشير إلى أنه ليس فيه ما يهيج الطباع إلى الهوى) [نزهة الأسماع]
وقال نقلا عن أبي الطيب: (وإنما يكون الشعر غناء إن لحن وصيغ صيغة تورث الطرب وتزعج القلب وتثير الشهوة الطبيعية فأما الشعر من غير تلحين فهو كلام).
قال الشاطبي في بيان أوجه ما كان يحصل من الإنشاد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (الاعتصام 2/112): (ومنها: أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطاً لكلال النفوس، وتنبيها للرواحل أن تنهض بأثقالها، وهذا حسن، لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقاً من غير أن يعتملوا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم، بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه يليق بأمّية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى، فلم يكن فيه إلذاذ، ولا إطراب يلهي، وإنما كان لهم فيه شيء من النشاط؛ كما كان أنجشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله r، وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق).
ونقل عن القرافي قوله (الاعتصام 2/116): (إن الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم، ولم يكونوا يلحنون الأشعار، ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم، إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي. فإن كان صوت أحدهم أشجى من صاحبه كان ذلك مردوداً إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون).