الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد شاهدت مقطعًا للشيخ محمد الحسن الددو، تحدّث فيه عن مسألتين مهمّتين: ولاية المتغلب، والولاية عن طريق التوريث.
وقد صرّح فيه بأن هاتين الطريقتين لا تصح بهما الولاية أصلًا، بل جوّز الخروج على من تولّى أمر المسلمين عن طريق الغلبة أو التوريث.
وهذا الكلام – مع الأسف – مخالفٌ للنصوص الصريحة، ومصادمٌ لإجماع العلماء.
وقد انتشر هذا المقطع في وسائل التواصل، وتناقله بعض من في قلوبهم هوى، وفرح به دعاة الفوضى والثورات، والتبس الأمر على كثير من الناس، فظنوا أن ما قاله الشيخ هو الحق، وأنه القول الشرعي المعتبر!
لكن الحق أن هذا القول خطره عظيم، ويفتح باب شر على الأمة، ويغري قليلي العقول، ومرضى القلوب، بأن يثوروا ويُشعلوا الفتن في بلاد المسلمين، فيفضي الأمر إلى فوضى، وفساد، ودماء، وتفرّق الكلمة، وانهيار الأمن.
ومن هنا وجب الرد على هذا الكلام، وبيان مخالفته للحق، نصيحةً لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
وأبدأ أولًا بما قرره الشيخ الددو عن ولاية المتغلب.
قال الشيخ بالحرف: (كالمستبد الذي جاء بالإكراه، هو جاء بانقلاب عسكري بالإكراه، فيُزال بانقلاب عسكري، هذا لا حرج فيه).
وهذا الكلام مخالف للنصوص، ولأقوال أئمة الإسلام من جميع المذاهب.
فنصوص الشرع دلت على أن من تغلّب على الناس، وصارت له الشوكة، واستتب له الأمر، فله السمع والطاعة، وتنعقد له الولاية، ولو كان طريقه محرمًا.
فليس كل من أخذ الولاية بطريق غير مشروع تُبطَل ولايته، بل يُفرّق بين طريقة التولّي، وصحة التولية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي“. متفق عليه
وهذا يدل على وجوب الطاعة لمن تولّى، ولو لم يكن الأصلح، حتى لو كان عبدًا مملوكًا.
وقد قرر هذا الأصل أئمة السُّنة في كتب العقيدة، منهم الإمام أحمد – رحمه الله –، حيث قال: (والسّمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر، ومن وَلِيَ الخلافة، واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمّي أمير المؤمنين).
وهذا ليس رأيًا فقهيًا فرعيًا، بل هو أصل من أصول أهل السنة والجماعة.
وليس الإمام أحمد وحده، بل هذا هو قول المالكية، والشافعية، والحنفية، والحنابلة، وحكي الإجماع فيها، ونقل جمع من العلماء.
فقد قال ابن أبي زيد القيرواني – رحمه الله –، وهو من كبار علماء المالكية في “الجامع في السنن والآداب“: (السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين، عن رضا أو غلبة، واشتدت وطأته من برٍّ أو فاجر، ولا يُخرج عليه، جار أو عدل…إلى أن قال: وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة وأئمة الناس في الفقه والحديث على ما بيناه، وكله قول مالك؛ فمنه منصوص من قوله، ومنه معلوم من مذهب). “الجامع في السنن والآداب” ص١١٦-١١٧
وقال أبو الحسن الأشعري – رحمه الله – ناقلًا إجماع أهل السنة في “رسالة إلى أهل الثغر“: (الإجماع الخامس والأربعون: وأجمعوا عَلَى السمع والطاعة لأئمة المسلمين، وعلى أن كل من ولي شيئًا من أمورهم عن رضىً أو غلبة، وامتدت طاعته من بَرٍّ وفاجر لا يلزم الخروج عليهم بالسيف جار أو عدل). ص ١٦٨ ت: عبد الله شاكر. ط الجامعة الإسلامي
وقال ابن العربي المالكي – رحمه الله – في شرح الموطأ: (قوله: “وألا ننازع الأمر أهله” فيعني بقوله أهله: مَنْ مَلَكَه، لا من يستحقه، فإن الأمر فيمن يملكه أكثر منه فيمن يستحقه، والطاعة واجبة في الجميع لأمر النبي ﷺ بذلك، لكل أمير، ولو كان عبدا حبشيا، لما في ذلك من مصلحة الخلق، فإن الخروج على من لا يستحق الأمر إباحة للدماء وإذهاب الأمن وإفساد ذات البين، فالصبر على ضرره أولى من التعرض لهذا الفساد كله). “القبس في شرح الموطأ” ٥٨٣
وقال ابن بطال المالكي – رحمه الله – في شرح البخاري: (الفقهاء مجمعون على أن الإمام المتغلب طاعته لازمة). ).“شرح البخاري” (10/8)
وقد نقل ابن حجر – رحمه الله – هذه النص عن ابن بطال في الفتح، ولم يتعقبه بشيء.
وقال المجلسي الشنقيطي المالكي – رحمه الله – في “>لوامع الأنوار في هتك أسرار المختصر” في بيان طرق الولاية: (ثالث: وهو التغلب وعِظُم الشوكة، ولا تجوز منازعته لارتكاب أخف الضررين، ولا يشترط فيه إذ ذاك شرط من الشروط). ١٦/١٢
وقال ابن عابدين الحنفي – رحمه الله – في “الحاشية”: ((والإمام يصير إماما) بأمرين (بالمبايعة من الأشراف والأعيان، وبأن ينفذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره وجبروته) … الإمام المتغلب، وإن لم تكن في شروط الإمامة، وقد يكون بالتغلب مع المبايعة وهو الواقع في سلاطين الزمان نصرهم الرحمن… إلى أن قال: يصير إمامًا بالتغلب ونفاذ الحكم والقهر بدون مبايعة أو استخلاف كما علمت). ٢٦٣/٤
وقال النووي الشافعي – رحمه الله – في “روضة الطالبين”: (الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكتِه وجنودِه، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا، أو جاهلا، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا بفعله). ٤٦/١٠
وقال ابن قدامة الحنبلي – رحمه الله – في “المغني”: (ولو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إماما يحرم قتاله، والخروج عليه). 12/243
فكل هذه الأقوال، من علماء المذاهب الأربعة، تدل على أن ولاية المتغلب تنعقد، وأن الطاعة له واجبة، وإن كان طريقه محرَّمًا، درءًا للفتنة، وحفظًا لوحدة المسلمين.
والعلماء لم يُجوزوا طريق الغلبة فحسب، بل قرروا أن من تغلّب، فعُقدت له الولاية، حرُم الخروج عليه، دفعًا للفساد، وسفك الدماء.
ولهذا نقول بكل وضوح: ما قرره الشيخ الددو من بطلان ولاية المتغلب، وتجويز الخروج عليه، قول مخالف لما عليه أهل السنة، ومخالف للنصوص، ولإجماع العلماء عبر القرون.
الوقفة الثانية
قال الشيخ الددو – سامحه الله – إن العلماء لم يُقرّوا بولاية المتغلب، وإن ما كُتب في هذا الباب كان تحت ضغط السياط والإكراه، فقال: (هذا الذي عقد عليه الناس كتبهم وبيّنوه، إلا في أوقات بعض الفقهاء تحت السياط والإكراه، وإكراه الواقع، قد يُطلق إطلاقات يُفهم منها الناس خلاف ذلك).
وأقول: هذا الكلام غير صحيح، بل خطأ بيّن، وزعم باطل.
كيف يُقال إن الفقهاء كتبوا هذا تحت الإكراه؟! وقد نقلنا من كتبهم، من أقوالهم، من مذاهبهم التي تُدرّس منذ قرون، أن ولاية المتغلب إذا استتب له الأمر تنعقد له، وتجب طاعته، درءًا للفتنة وسفك الدماء.
فأين هذه الكتب التي تدّعي يا شيخ محمد أنها كُتبت تحت الإكراه؟ وأين العلماء الذين صرّحوا بأنهم أفتوا بهذه المسألة وهم مكرهون؟
هذه دعوى مجردة، لا دليل عليها.
بل الذي عليه المذاهب الأربعة – وقد نقلنا ذلك بنصوصهم – أن ولاية المتغلب صحيحة، وطاعته لازمة.
فلو كانت هذه الفتاوى كتبت تحت السياط كما يزعم، لما تناقلها علماء المذاهب، وأدرجوها في كتب العقيدة والفتوى والفقه.
فدعوى أن الفقهاء أُكرهوا على هذا القول، لا تعدو أن تكون رجماً بالغيب، وتخمينًا لا يقوم عليه دليل.
الوقفة الثالثة
قال الشيخ الددو: إن الإمام مالك قد أفتى بالخروج مع محمد بن الحسن النفس الزكية على أبي جعفر المنصور، وأنه كذلك أفتى بالخروج مع عبد الرحمن الداخل، فقال: (لكن مالك بن أنس لما سئل عن الخروج مع محمد النفس الزكية على أبي جعفر المنصور قال: نعم، يُخرج معه، فأفتى بذلك. وكذلك عبد الرحمن الداخل في الأندلس أفتى أيضاً بالخروج معه).
وأقول:
هذه دعوى تحتاج إلى إثبات، والحق أنها لم تثبت عن الإمام مالك.
أما الرواية التي نُقلت عن الإمام مالك – رحمه الله – في هذه المسألة، فهي رواية ضعيفة السند، ومعلولة المتن، رواها الطبري بإسناد فيه سعد بن عبد الحميد، وهو رجل صدوق له أغاليط. [انظر: “تاريخ الطبري” ٧/٥٦٠ وفيه: (وحدثني سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قال: أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتُي…)، ورواه أبو الفرج الأصبهاني في”مقاتل الطالبين” ص٢٤٨، وزاد راو في السند، فقال: (وحدثني سعيد بن عبد الحميد، قال حدثنا جهم بن جعفر الحكمي، قال: أخبرني غير واحد: أن مالك بن أنس استفتي…)]
قال ابن حبان – رحمه الله – عن >سعد بن عبد الحميد<: (كان ممن يروي المناكير عن المشاهير، وممن فحش وهمه، حتى حسن التنكب عن الاحتجاج به). وقال ابن أبي خيثمة: (سألت أحمد وابن معين وأبي عنه، فقالوا: كان هاهنا في ربض الأنصار، يدعي أنه سمع عَرْض كتب مالك. قال أحمد: والناس ينكرون عليه ذلك). وقال ابن معين: (ليس به بأس، وقد كتبت عنه). “تهذيب التهذيب” ١/٦٩٥
ولخص ابن حجر – رحمه الله – الحكم فيه فقال: (صدوق له أغاليط). “تقريب التهذيب” (٢٢٤٨)
ومثله لا يُحتج به إذا انفرد، خصوصًا إذا لم تُعرف الرواية من طريق غيره، ولا عن كبار أصحاب مالك.
ثم إن سعدًا هذا قال: أخبرني غير واحد. ومن هؤلاء؟ لا يُعرفون، فإنه لم يُسمّهم، وهذا إبهام في السند، لا يُقبل معه النقل. فإنه لو قال: حدثني ثقات، لم يُقبل، كيف والإبهام بلا تعديل.
وفوق ذلك، فإن هذه الرواية لم تُعرف عن الإمام مالك إلا من هذا الطريق، ولا رواها أحد من تلاميذه الكبار، مع أن هذه فتوى خطيرة، فلو صدرت من الإمام مالك لكانت مشهورة معروفة، ولكان لها ذكرٌ في كتب أصحابه، ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك.
بل إن المعروف عن مالك – كما صرح به فقهاء المالكية كما سبق النقل عن ابن أبي زيد القيرواني وغيره– أنه لم يكن يرى الخروج على الأئمة، ولو كانوا جُوَّارًا، ما لم يظهر منهم كفر بواح.
ونقل جمع من المالكية الإجماع على صحة بيعة المتغلّب، وانعقاد الإمامة بها، وتحريم الخروج عليه، كما سبق نقله عن ابن أبي زيد القيرواني وابن بطال وغيرهم من المالكية، فلو كانت هذه الرواية ثابتةً عندهم عن الإمام مالك، لما نقلوا إجماعًا على خلافها.
بل غايـة ما نُقل عن مالك أنه كان يرى أن المكره على البيعة، لا تلزم بيعته، لحديث: (ليس على مستكره طلاق)، وكان العباسيون يُحلفون من بايع بالطلاق، وهذا قول فقهي له وجهه، لكنه ليس فتوى بالخروج، ولا تحريضًا عليه. [انظر “ترتيب المدارك” للقاضي عياض٢/١٤٣، و”البيان والتحصيل” لابن رشد ١٨/٥٢٦]
والقاضي عياض – رحمه الله – نفسه قد بيّن زيف دعوى أن الإمام مالك نصر النفس الزكية، فقال: (قال ابن كنانة: قال العمري -وكان قد خرج مع النفس الزكية- قال لمالك: بايَعَنِى أهل الحرمين، وأنت ترى ظلم أبي جعفر، فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا بعده؟ قال: لا، قال: كانت البيعة ليزيد، فخاف عمر إن بايع لغيره أن يقيم يزيدُ الهيجَ، ويقاتلَ الناس، فيُفسدُ ما لا يُصلح، فاحتمل العمري على رأي مالك). ١٦٩/١
والدليل على هذا أن الإمام مالك – حين ضُرب وجُلد بأمر والي المدينة – اعتذر له الخليفة نفسه، أبو جعفر المنصور، وقال: ما أمرت بذلك، ولا رضيت به. ذكره أبو العرب التميمي في كتاب “المحن” ١/١٦٩.
فهل يُعقل أن يجلده ويعذّبه، ثم يعتذر له، مع أنه قد أفتى بالخروج عليه؟! هذا لا يستقيم.
بل جاء في “ترتيب المدارك” و”لوامع الدرر” وغيرهما، أن الإمام مالك نصح من جاءه يسأله عن الفتنة بالأندلس ألا يتكلم في ذلك، وأمره بلزوم الصمت، وترك الفتنة. انظر “لوامع الدرر في هتك أسرار المختصر” ١٢/١٧
فأين هذه الفتوى بالخروج التي يدعيها الشيخ الددو؟
ثم إن عبد الرحمن الداخل – الذي قلتَ إن مالكًا أفتى بالخروج معه – لم يخرج أصلاً من الحجاز أو الشام بجيش، وإنما خرج متخفيًا فارًّا بنفسه من بطش العباسيين، وسكن عند قبائل من البربر سنين طويلة، ثم أسس دولته في الأندلس بمساعدة بقايا الأمويين هناك.
كيف يُفتى بالخروج معه، ومالك في المدينة، ولا علاقة له بكل ذلك؟!
بل هذا الكلام لا أصل له، لا في كتب المالكية، ولا في كتب السير، ولا في كتب التراجم.
فما قاله الشيخ الددو – مع الأسف – في الوقفة الثانية والثالثة، مبني على ادعاءات مرسلة، لا تثبت علميًا، ولا تنقل نقلاً موثوقًا، ولا تقبلها القواعد الحديثية والفقهية.
الوقفة الرابعة
قال الشيخ الددو في استدلاله على جواز الخروج على الحاكم المتغلب: (عندما سُئل الإمام مالك: أرأيت لو خرج على إمامنا رجل ينازعه، أندفع عن إمامنا؟ قال: إن كان مثل عمر بن عبد العزيز فادفع عنه، وإلا فدعه وما يطلب منه، ينتقم الله من الظالم بالظالم، ثم ينتقم من كليهما).
وأقول تعليقًا على هذا: هذا القول عن الإمام مالك – إن صح عنه – فليس فيه أي دليل على جواز الخروج على الحاكم المتغلب أو غيره.
بل هذا القول يدور في مسائل أحكام البغاة، وهي مسألة فقهية دقيقة، تناولها العلماء عند الكلام عن الخروج المسلح بين على الإمام.
وفي هذه المسألة، الفقهاء بحثوا: هل يجوز للناس أن يُعينوا الإمام الجائر – إذا خرج عليه قوم يطالبون بحق مشروع – أم لا؟
المالكية والحنفية قالوا: لا تُعان الدولة في هذه الحال، لأن القتال يكون إعانة على الظلم. [انظر “حاشية ابن عابدين” ٤/٢٦١، و”فتح القدير” ٦/١٠٢، و”حاشية الصاوي على الشرح الصغير” ط. الحلبي ٢/٤١٥]
أما الشافعية والحنابلة، فقالوا: يُقاتل مع الإمام دفعًا للفتنة، ولو كان غير عادل، لأن المفاسد أعظم. [انظر “كشاف القناع” ١٤/٢١٢، و”حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج” ٧/٣٨٥ ط. البابي]
فالخلاف هنا ليس في جواز الخروج ابتداءً، بل في حكم إعانة الإمام الظالم إذا هاجمه بغاة يطالبون بحق مظلوم.
ومن هنا يظهر أن كلام الإمام مالك ليس فيه تجويز للخروج، ولا تأييد له، بل هو اجتهاد فقهي في موضع البغي والفتنة، فلا يصح حمله على مسألة مشروعية الخروج، ولا يصح جعله دليلاً على إسقاط ولاية المتغلب.
الوقفة الخامسة
استدل الشيخ الددو بكلام سُحنون – رحمه الله –، فقال: (قال سحنون في شرح كلام مالك: إذا كان الإمام غير عدل، فخرج عليه عدل، وجب الخروج معه. ليظهر دين الله).
وأقالتي ول:
أولاً: هذا الكلام من سحنون ليس شرحًا لكلام الإمام مالك، كما ادعى الشيخ، بل هو قول خاص بسحنون نفسه، انفرد به وخالف فيه جماهير المالكية، بل خالف فيه النصوص الصريحة، وخالف الإجماع الذي نقله علماء مذهبه أنفسهم، مثل ابن أبي زيد القيرواني، والقاضي عياض، وابن بطال.
فالإجماع الذي عليه أهل السنّة، كما نقله القاضي عياض، أن الخروج على الحاكم الجائر لا يجوز، إلا إن وقع منه كفر بواح.
قال القاضي عياض – رحمه الله – في “إكمال المعلم“: (لا يجوز الخروج على الإمام العدل باتفاق، فإذا فسق وجار؛ فإن كان فسقه كفرًا وجب خلعه، وإن كان ما سواه من المعاصي، فمذهب أهل السنة أنه لا يُخلع، واحتجوا بظاهر الأحاديث وهي كثيرة؛ ولأنه قد يؤدى خلعه إلى إراقة الدماء وكشف الحريم، فيكون الضرر بذلك أشد من الضرر به. وعند المعتزلة أنه يخلع… وقال جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام: لا يُخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظُه وتخويفه، وتركُ طاعته فيما لا تجب فيه طاعته… وقد ادَّعى أبو بكر بن مجاهد في هذه المسألة الإجماع…). ٦/٢٥٧
وهذا هو الذي بنى عليه فقهاء المذاهب كتبهم في العقيدة والفقه.
أما قول سحنون، فهو قول شاذ، ومخالف لما عليه السلف، ومخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، فلا يجوز الاحتجاج به، ولا الاعتماد عليه.
ولو فتحنا الباب لقبول كل قول شاذ، لانهدت أصول الدين، وتفرقت الأمة، وصار لكل طائفة مذهب تسير عليه.
وقد بيّن القرافي – رحمه الله – أن الأقوال المخالفة للنصوص والإجماع لا يجوز نقلها ولا الفتيا بها، فقال: (كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد، أو النص، أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح، لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله… على هذا يجب على أهل العصر تفقدُ مذاهبهم، فكلُّ ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به، ولا يَعْرَى مذهبٌ من المذاهب عنه، لكنه قد يقل وقد يكثر). “الفروق” ٢/١٠٩
وقال العلماء: (من تتبع رُخص العلماء، اجتمع فيه الشر كله).
وقال الذهبي – رحمه الله –: (مَن يَتَتَبَّع رُخَص المذاهِب، وزلاَّت المجتهدين، فقد رقَّ دِينه). “سير أعلام النبلاء” ٨/٩٠
وتتبع الأقوال الشاذة أخطر ما يكون في أبواب الدماء، والخروج، والفتن.
على أنه قد ثبت عن سحنون ما يخالف هذه الرواية:
فقد روى أبو بكر محمد بن عبد الله المالكي في كتاب “رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية“عن يحيى بن عون قال: دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض، فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: ألست مصدقا بالرسل والبعث والحساب، والجنة والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف وإن جاروا. قال: إي والله. فقال: مت إذا شئت، مت إذا شئت). 1/367، وانظر “سير أعلام النبلاء” 12/67
الوقفة السادسة
ثم استدل الشيخ الددو بكلام عضد الدين الإيجي في كتاب “المواقف“، حيث قال: (وكذلك ما ذكر العضد الإيجي في المواقف، فإنه قال: إن للأمة أن تعزل الحاكم إذا فرط فيما أقيم من أجله. إذا لم يقم الحاكم ما أقيم من أجله فهو وسيلة لا مقصد، فلذلك لا بد من عزله).
وأقول:
لو تأملنا كلام الإيجي وشرّاحه من أمثال الجرجاني والتفتازاني، لعلمنا أن المقصود بـ”الأمة” هنا هم أهل الحل والعقد، وليس عامة الناس، ولا جماعات الضغط، ولا دعاة الفتنة.
ففي “شرح المواقف“: ((وللأمة خلع الإمام) وعزله (بسبب يوجبه) مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلالَ أحوال المسلمين، وانتكاسَ أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته، لانتظامها وإعلائها، (وإن أدى) خلعه (إلى الفتنة؛ احتُمل أدنى المضرتين)). ٤٦٧/٢ “شرح المواقف” مع حاشية السيالكوني وحسن جلبي. دار الطباعة القاهرة
فالشارح الجرجاني – رحمه الله – قال بوضوح: (كما كان لهم نصبه وإقامته) يعني: لهم عزله كما لهم نصبه، ومعلوم أن الذي ينصب الإمام هم أهل الحل والعقد، وليس عامة الأمة.
وإمام الحرمين الجويني – رحمه الله – قال أيضًا في “غياث الأمم“: (فإن قيل: فمن يخلعه؟ -أي: الإمام- قلنا: الخلع إلى من إليه العقد، وقد سبق وصف العاقدين بما فيه مقنع، وبلاغ تام). ص١٢٦، ط. ت: عبد العظيم الديب
وقال: (إن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضحاته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياعُ البيضة، وتبددُ دعائم الإسلام، ولم نجد من ننصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يُدفع البغاة، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سببا في ازدياد المحن، وإثارة الفتن.). “غياث الأمم” ص115
وجاء في >شرح المقاصد< للتفتازاني، وهو موازٍ لشرح المواقف للجرجاني، ومتوافق مع ترتيبه ومسائله، قال التفتازاني – رحمه الله – نقلاً عن الجويني: (قال إمام الحرمين: وإذا جار والي الوقت، فظهر ظلمه وغشمه، ولم يَرْعَوْ لزاجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه). ٢٣٣/٥ عالم الكتب
إذن، المسألة إنما هي في حال وجود قدرة مؤسسية من أهل الحل والعقد لعزل الحاكم، وليست مسألة خروج أو إثارة فوضى.
بل حتى الإيجي – رحمه الله – قال: (ولو أدى العزل إلى فتنة، رُجّح أدنى المفسدتين).
أي: يُتحمل بقاء الحاكم، إذا كان عزله يجر إلى دماء وخراب، كما هو الحال في أغلب بلاد المسلمين.
فليس في كلام الإيجي تجويز للخروج، ولا دعوة لثورة، بل هو تنظير في أبواب السياسة الشرعية، مع التشديد على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
الوقفة السابعة
قال الشيخ الددو: (وقد ذكر ابن جرير الطبري في كتاب التبصير: الإجماع على أن الحاكم إذا ظلم فردًا من أفراد الناس وجب الخروج معه، وجب القيام معه حتى ينتصف في مظلمته، حتى يأخذ حقه).
وأقول تعليقًا على هذا:
هذا النقل غير دقيق، بل هو تحريفٌ لمقصود ابن جرير الطبري، وتحميلٌ لكلامه ما لا يحتمل.
فإن الطبري – رحمه الله – في كتابه “التبصير في معالم الدين“، لما ذكر أحوال الخارجين على الإمام، قال: (أن يكون خروجُه عليه بظلم رُكِبَ منه في نفس أو أهل أو مال، فطلب الإنصاف فلم يُنصف، فيجب على المسلمين حينئذٍ الأخذُ على يد إمامهم المرضية إمرتُه عليهم، لإنصافه من نفسه إن كان هو الذي ناله بالظلم، أو أخذُ عامله بإنصافه إن كان الذي ناله بالظلم عاملاً له. ثم يكون على الخارج عليه… أن يفيء إلى الطاعة بعد إنصافه، فإن لم يفيء، كان على المسلمين هنالك معونةُ إمامهم العادل عليه حتى يؤوب إلى طاعته). ص159
أين في هذا الكلام ما يدل على وجوب الخروج مع المظلوم على الإمام؟!
الطبري – رحمه الله – لم يقل هذا قط، بل نص على أن الواجب على الأمة أن تأخذ على يد الإمام لإنصاف المظلوم، وأن تُنصِف الخارج ثم تعيده للطاعة.
فكلام الطبري واضح أنه في إلزام الإمام برفع الظلم، لا في جواز الخروج عليه، بل عاقبة الخارج – إن أُعطي حقه – أن يعود إلى طاعة الإمام، لا أن يستمر في الخروج!
فادعاء الشيخ الددو أن الطبري أفتى بالخروج على الإمام أو أوجب نصرة الخارج، ادعاء باطل لا يدل عليه نص الطبري لا من قريب ولا من بعيد.
ثم لا ننسى أن الطبري من أئمة أهل الحديث، المعروفين بلزوم السنة والقول بحرمة الخروج على الأئمة، وإن جاروا وظلموا. فكيف يُنسب إليه هذا الرأي المنسوب إلى الخوارج والمعتزلة؟!
الوقفة الثامنة
قال الشيخ الددو: (كذلك من جاء بالميراث، توريث الكرسي الذي يفعله بعض الرؤساء وبعض الملوك، فيأتي شخص حتى ولو كان الدستور لا ينطبق عليه، فيغير الدستور لصالحه هو، ويُؤتى به ليرث هذا الكرسي، هذا لا تنعقد به الإمامة، والخروج عليه ليس خروجًا، ليس إمام الحق في حال من الأحوال، ولا يستطيع أحد أن يدّعي له ذلك).
وأقول:
هذا القول مجانب للحق، فالمسألة ليست على هذا الإطلاق والتهويل، بل فيها تفصيل.
أصل هذه المسألة داخلة تحت ما يُسمى الولاية بالعهد، وهي أن يعهد الإمام بالخلافة من بعده لشخص معين، سواء كان ابنه أو غيره.
وقد دلّت النصوص على جواز الولاية بالعهد، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه عندما عهد إلى عمر، وكذلك عمر عهد إلى الستة، واختار عبد الرحمن منهم عثمان.
وقد نقل جماعة من العلماء الإجماع على صحة هذا النوع من التولية:
قال ابن حزم – رحمه الله – في “مراتب الإجماع”: (اتفقوا أن للإمام أن يستخلف قبل ذلك أم لا، ولم يُختلف في جواز ذلك لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أحد، وإجماعهم هو الإجماع). ص٢٠٨
وقال في “الفِصَلْ في الملل والأهواء والنحل“: (ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوى). ٤/١٢٩
وقال الماوردي – رحمه الله – في “الأحكام السلطانية”: (وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته). ص٣٠
وقال النووي – رحمه الله – في “شرح مسلم”: (وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف). 12/٢٠٥
لكن هل تنعقد الإمامة بمجرد العهد، أم لا بد من بيعة أهل الحل والعقد؟
هنا وقع الخلاف، والصحيح أن الإمامة لا تنعقد بمجرد العهد، بل لا بد من رضا أهل الحل والعقد ومبايعتهم.
قال علي رضي الله عنه كما في “التنوير في شرح الجامع الصغير“: (ولا تنعقد الإمامة إلا ببيعة المسلمين). ١/١١٠
وقال ابن تيمية – رحمه الله – في “منهاج السنة”: (وكذلك عمر لما عهد إليه أبوبكر إنما صار إمامًا لما بايعوه وأطاعوه، ولو قُدّر أنهم لم يُنْفِذُوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إمامًا، سواء كان ذلك جائزًا أو غير جائز). ١/٥٣٠
فإذا اجتمع العهد والبيعة، انعقدت الإمامة بالإجماع، سواء كان المعهود له ابنا أو غيره. ولا يَضُر أنه قريب أو وارث، مادامت المبايعة حصلت من أهل الحل والعقد.
أما التوريث المحض للإمامة، لمجرد النسب والقرابة، لا لمصلحة شرعية معتبرة، فهذا محرم بالإجماع.
قال ابن حزم – رحمه الله –: (لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها). “الفصل في الملل والأهواء والنحل” ٤/١٢٩
لكن، لو حصل التوريث الباطل، ثم بايع الناس الإمام الموروث، فهل تصح إمامته؟
الجواب: نعم، تصح إجماعًا.
فلا تلازم بين المعصية في طريقة الوصول إلى الحكم، وبين بطلان الحكم نفسه.
قال الإمام أحمد – رحمه الله –: (والسّمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البرّ والفاجر، ومن وَلِيَ الخلافة، واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة، وسُمّي أمير المؤمنين). رواه اللالكائي 1/160
فإذا كان هذا الحكم لمن غلب بالسيف، فمن باب أولى أن يثبت لمن ورث الحكم، ثم بايعه الناس ورضوا به.
والعجيب أن الشيخ الددو يُبطل الإمامة بالتغلّب والتوريث، ويُثبتها بالانتخابات، مع أن التاريخ الإسلامي كله جرى فيه العمل بالتوريث والتغلّب، بينما لم تُعرف الانتخابات إلا مؤخرًا، وعلى طريقة غير المسلمين!
وقد أجمع المسلمون في كل عصورهم على صحة إمامة المتورّث، ما دام قد بايعه الناس، وقامت له البيعة. ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن من وُرّث الخلافة لا تصح بيعته ولا يجوز أن يُطاع، بل هذا قول باطل لا سلف له من الأمة.
والأعجب من ذلك أن أول من ورّث الخلافة كان معاوية رضي الله عنه، الصحابي الجليل، الخليفة الراشد، حين عهد بالخلافة ليزيد، وكان ذلك اجتهادًا منه للمصلحة العامة، لا لهوى ولا محاباة.
قال ابن خلدون – رحمه الله –: (والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاقِ أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابةُ قريش، وأهلُ الملة أجمع، وأهلُ الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يُظن أنه أولى بها، وعَدَل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع). “مقدمة ابن خلدون” ١/٢٦٣
وهذه الأحكام والمصالح والمفاسد تختلف من زمن إلى زمن، ومن بلد إلى بلد، فما يكون ممنوعًا في وقت، قد تقتضي الضرورة والمصلحة العمل به في وقت آخر، والقاعدة أن كل ما كان معجوزًا عنه من الشروط، فهو في حكم المعدوم. (فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
وعلى هذا، فإن القول بأن الولاية بالتوريث لا تنعقد أبدًا، والخروج على صاحبها ليس خروجًا، قولٌ مردود، مخالف للنص، ولإجماع الأمة، ولعمل المسلمين عبر القرون.
فإذا كانت الولاية قد تنعقد بالتغلب – وهو محرَّم في أصله – فالتوريث أولى بالانعقاد، إذا بايع الناسُ، وقام له أمرُ الجماعة.
والواقع يشهد أن أكثر الدول استقرارًا اليوم هي الدول الملكية والدول الوراثية، لا سيما مع بعدِ كثير من الناس عن أحكام الشرع، وغلبةِ الهوى فيهم.
هذا ما أحببت بيانه وتوضيحه، والله الموفق للصواب
والله أعلم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين