لتنزيل المقال على ملف pdf انقر على الرابط أدناه
دفع مواضع النقد عن تاريخ نجد لابن غنام والرد على الدكتور أحمد الدعيج
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
فقد نشر الدكتور المؤرّخ أحمد الدعيج -وفقه الله- على موقع اليوتيوب سلسلة محاضرات تحت عنوان «الجوانب السياسية في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب»، وقد أحدثت السلسلة لغطاً كثيراً، وأثارت شبهات حول دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية، واستغلها خصوم الدعوة الإصلاحية في اتهامها بالخروج عن الصراط المستقيم، واستباحة الدماء والأموال المعصومة.
ولم يكن الإشكال واللغط حاصلاً عند العوام أو المخالفين لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب فحسب، بل عند من ينتسب إلى هذه الدعوة الإصلاحية المباركة ويؤيدها أيضاً.
وقد اجتمعتُ عدة مرات مع بعض طلبة العلم والدعاة لدفع الإشكالات التي أحدثتها السلسلة المشار إليها على الدعوة.
ومن آثار سلسلة الدكتور الدعيج: أنها فتحت الباب لتتبع أقوال المخالفين المتهمين للدعوة بالغلو والتطرف، لما أحدثته من إشكالات، وأثارته من شبهات.
وقد استمعتُ للسلسلة مرتين للتحقق مما أثير حولها، فوجدتها مثاراً للشبهات، ومحلاً لاتهام الدعوة بما ذُكر.
ولا أشك في حب الدكتور الدعيج للدعوة ونصره لها، وتعظيمه للدعوة والدولة، وهو أمر قد اشتهر عنه وعُرف به، كما لا أشك في تقدمه وسعة اطلاعه في التاريخ، وعنايته به، إلا إنه لم يُوفّق للصواب في هذه السلسلة بالخصوص، ولي عليها عدة انتقادات مهمة وحساسة، لعلي أشير إليها باختصار:
أولاً: لا يخفى أن تاريخ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية ليس كغيره من التواريخ من عدة اعتبارات، من ذلك: أنها دعوة قامت على تجريد التوحيد الخالص لله تعالى، ومحاربة الشرك الذي عمّ وانتشر في عامة بلاد الإسلام منذ قرون طويلة، وأنها انتظمت بتأييد الأمير محمد بن سعود، فاعتضد فيها سيف السلطان وحجة القرآن، فتأسست دولةٌ من دول الإسلام العظام، وجرت أحداث كثيرة وفصول عديدة من الصراع والخصومة والقتال، مما استوجب تنزيل الأحكام على المخالفين بقدر مخالفتهم للشرع حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
ولا يخفى على فضيلة الدكتور أن تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والحوادث والنوازل هو وظيفة العلماء الراسخين وليس من شأن المؤرّخين، وذلك أنه مبنيٌّ على أمرين:
الأول: العلم بالأحكام الشرعية التفصيلية، وهو فقه الدليل، ومعرفة الأصول والضوابط والقواعد في تنزيل الأحكام على الوقائع والنوازل، وهو فقه التنزيل.
الثاني: تصوّر الواقع.
فوظيفة المؤرّخ في مثل هذا النوع من التواريخ: سَوْقُ الأحداث وذِكرُ الوقائع، دون التعرض لنقد الأحكام التي أنزلها العلماء على تلك الوقائع، لا سيما المعاصرون منهم لتلك الأحداث، لكونهم أعلمَ بالشرع وأصولِ تنزيل الأحكام، هذا أولاً، ولأنهم أخبرُ بالواقع الذي عاشوه وعاصروه من المؤرّخ المتأخر عن تلك الأحداث ثانياً.
وهذا الخطأ المتمثّل في نقدِ الأحكام التي أنزلها علماء ذلك الزمان على تلك الوقائع والحوادث قد وقع فيه غير واحد من المؤرّخين الذين خاضوا في تاريخ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب بالخصوص، من أمثال الدكتور عبد الله العثيمين، والدكتور أحمد البسام، وغيرهما.
وقد وَقَع الدكتور أحمد الدعيج -وفقه الله- في هذا الخطأ حيث انتقد العلامة حسين بن غنّام في أكثر من موضع من السلسلة في بعض أحكامه التي أنزلها على بعض أهل القرى والنواحي، كقوله: (ارتدّ أهل كذا)، وقوله (بايع أهل هذه الناحية على الإسلام)، ونحو هذه العبارات التي أطلقها ابن غنّام في تاريخه. ومما زاد الطين بِلّة أن انتقاد الدكتور الدعيج لها كان بطريق السخرية والضحك، وهو أمر لا يليق من مثله.
ولا شك أن انتقاده ليس في محله من وجوه:
منها، أن ابن غنّام لم يكن مؤرخاً فحسب، بل كان عالماً مجتهداً، تتلمذ على يديه عدد من تلاميذ الإمام وأولاده وأحفاده، بل إنه استُقدم للدرعية لأجل هذا الغرض.
قال الشيخ عبد الله البسام -رحمه الله- في ترجمة ابن غنّام: (نشأ في الإحساء، وأخذ في صباه مبادئ القراءة والكتابة، ولما شبّ شرع في القراءة على علماء الإحساء من آل مبارك وآل عبد القادر وغيرهم، وكان الغالب في الإحساء شيوع مذهب الإمام مالك، فدرس كتب المالكية في الفروع، فصار مالكي المذهب. ولما قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته، واتسعت بعد رحيله إلى الدرعية، انتقل ابن غنّام إلى الدرعية، واتصل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودَرَسَ عليه كما دَرَسَ على أبنائه وكبار تلاميذه، فشرب الدعوة وغُرست في قلبه، فصار من كبار المدافعين عنها، والذايدين عن حياضها. وقد جلس في الدرعية للتدريس، فأخذ عنه عدد من كبار العلماء، واستفادوا منه في العلوم العربية) ا.ه. [«علماء نجد في ثمانية قرون» 2/56]
وقد أثنى عليه العلماء، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- وهو من تلاميذ ابن غنّام، وكان لا يذكره إلا بوصف: «شيخنا»، وقد قال في وصف شيخه: (فريدُ وقته بعلم المعقول والمنقول، والشعر والإنشاء- في صَدْر القرن الثالث عشر) ا.ه. [«الدرر السنية» 11/487]
وقال عنه عثمان بن بشر -رحمه الله-: (كانت له اليد الطولى في معرفة العلم وفنونه، وله معرفة في الشعر والنثر) ا.ه. [«عنوان المجد في تاريخ نجد» 1/151]
وكان علماء الدعوة إذا ذكروه لقبوه بـ«العلامة»، و«عالم الإحساء»، ونحوهما من الألقاب الدالة على ما كان عليه من العلم والتقدّم فيه.
وعلى هذا، فحُكْمُ ابن غنّام على أهل ناحية أو قرية بالردّة هو حكمٌ صادرٌ من عالمٍ معتبرٍ على واقعة عَرَفَها وخَبَرها وأحاط بأحداثها وتفاصيلها، فلم يكن جرأةً منه ولا جهلاً، بل كان وفق علمٍ وتأصيلٍ وتنزيلٍ للقواعد الشرعية على الأحداث.
ومنها، أن تاريخ ابن غنّام قد كُتب إما بطلب من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، أو الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- على ما هو معروف ومذكور في مقدمة تاريخه.
فقد قال ابن غنّام في مقدمة تاريخه في ذكر الأسباب التي دعته لتأليفه: (والإمام أيّده الله تعالى يَعزِمُ عليّ في ذلك ويُشير) ا.ه. [«روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام» 1/4]
وهذا يعني أن تاريخه قد كُتب في عهد الإمام محمد بن عبد الوهاب أو عهد تلاميذه وكبار مشايخ الدعوة، وقد قرأوه وأقروه، ونقلوا عنه في عدة مواضع من كتبهم على ما هو مدوّن مُثبت في المجاميع والرسائل، وأوصوا بتكرار النظر فيه.
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في وصية لصاحب له: (وكَرِّر النظر فيما اشتمل عليه تاريخ ابن غنّام، من كلام شيخ الإسلام) ا.ه. [«الدرر السنية» 8/380]
فإقرارهم بهذا التاريخ ورضاهم عنه، وموافقة من جاء بعدهم من علماء الدعوة إلى يومنا هذا على هذا الأمر، وعدم استنكارهم شيئاً منه، أو تنبيههم على بعض مواضع النقد فيه، يدلّ على صحة ما ذَكَره ابن غنّام من الأحكام في الجملة، فانتقادُ ابن غنّام في هذه الأحكام يقتضي انتقادَ علماءِ الدعوة على إقرارهم ورضاهم بما اشتمل عليه تاريخه من الغلوِّ والمجازفة في الأحكام بتكفير المسلمين حسب ما يدّعيه المدّعون.
ومنها، أن الأحكام التي أصدرها ابن غنّام في كثيرٍ من الوقائع، قد جاء في رسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة ما يوافقها ويؤيدها، ووافقه في كثير منها عامة من أرَّخ لتلك الفترة كابن يوسف والفاخري وابن لعبون وابن بشر وغيرهم، وقد ذكرتُ شواهد ذلك في السلسلة التي ألقيتها بعنوان «السلسلة التأصيلية في بيان حقيقة الدعوة الإصلاحية»، وهي منشورة في موقع اليوتيوب لمن أراد الرجوع إليها.
فانظر على سبيل المثال رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب لأهل شقراء محذراً لهم من نقض العهد وترك الدين: (مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتدّ من البلدان أولهن (ضرما) وآخرهن (حريملا)، هم حصلوا سعة فيما يزعمون، أو ما زادوا إلا ضيقاً وخوفاً على ما هم قبل أن يرتدّوا) ا.ه. [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» ص292]
ومن تاريخ الفاخري قوله: (وفي سنة 1176ه… وفيها ارتدّ أهل وثيثة) [ص139]، وقوله: (وفي سنة 1165ه … وفيها ارتد أهل حريملاء) [ص133]
ومن تاريخ ابن يوسف قوله: (وفي سنة 1168ه: وفي تلك السنة يوم الجمعة، سابع من شهر جمادى الآخر، فُضِّيَتْ حريملا يوم فَضْي المسلمين) [ص141].
قلت: «فُضِّيَتْ»: أي فُتحت.
ومن كتاب «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب» لأحد مؤرخي نجد قوله: (وأسلم رياض العارض وضرما). [ص61]، وقال في غزو حجيلان بن حمد لأهل جبل شمّر: (وجاهد قرية تُسمّى جبة فأسلمت). [ص89].
وعلى هذا، فابن غنّام لم ينفرد بتلك الأحكام.
ومنها، أن ابن غنّام كان أدرى بحقيقة ما جرى من الوقائع والأحداث، وأعلمَ بالمواقف التي اتّخذها المخالفون تجاه الدعوة في تلك القرى والنواحي والتي استوجبت تنزيلَ تلك الأحكام عليهم، وهو أَخبَرُ بمقالاتهم التي صدرت عنهم في تلك الوقائع، مما قد لا يكون منقولاً بحروفه وتفاصيله في كتب التاريخ، فإن أقصى ما يمكن لمن تأخر عن تلك الأحداث أن يُحيط منها بما نُقل ودوِّن في الكتب والتواريخ ليس إلا، ولا يمكن بالطبع ادّعاء أن الحَدَثَ قد نُقل بكل تفاصيله وجزئياته في الكتب والتواريخ، فإذا كان من المسلّم أنّ المؤرّخ المتقدّم، لا سيما المعاصر، أعلمُ وأخبرُ وأكثرُ إحاطة بالأحداث وتفاصيلها من المؤرّخ المتأخر عنها، وأنّ التواريخ قد تخلو عن ذكر أسباب الأحداث والوقائع وتفاصيلها، فإنّ هذا يقتضى تقديمَ تصويرِ وتحليلِ من شَهِدَ الأحداث والوقائع وخَبَرَها على من تأخر عنها، فكيف إذا أضيف إلى ذلك كون المؤرّخ المتقدّم والمعاصر للحدث أعلمَ بالشرع من المتأخر ومعروفاً بالأمانة والصدق، فلا ريب حينئذ في تعيّن تقديمِ حُكمِهِ وتحليله للأحداث على المتأخر.
وبهذا يتبيّن أن انتقاد الدكتور الدعيج ومن وافقه ليس في محله.
ثانياً: أن التعبير بالارتداد، مثل قول ابن غنّام (ارتدّ أهل كذا) لا يلزم منه بالضرورة الارتداد عن الإسلام، إذ قد يُعبّر بالارتداد عن نكث البيعة والرجوع إلى الحال الأول، وقد نبّه الشافعي -رحمه الله- إلى هذا المعنى في تفسير ما ورد عن بعض السلف في وصف مانعي الزكاة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بالردّة حيث قال:
(فإن قال قائل: ما دلَّ على ذلك؟ والعامة تقول لهم: أهل الردة، قال الشافعي رحمه الله تعالى: فهو لسان عربي، فالردة الارتداد عمَّا كانوا عليه بالكفر، والارتداد بمَنْعِ الحق، قال: ومن رجع عن شيء جاز أن يقال: ارتدّ عن كذا) ا.هـ. [«الأم» 9/206].
ومثله قول الخطابي-رحمه الله-: (إن الردّة اسم لغوي، وكل من انصرف عن أمرٍ كان مقبلاً عليه فقد ارتدّ عنه…). ا.هـ. [«معالم السنن» 2/6].
نعم، لا شك أنّ ابن غنّام قد عنى بالردّة في بعض المواضع الخروج عن الإسلام، لكن لا يلزم منه أن يكون هذا مراده في جميع المواضع.
ومثله التعبير عن جيش الدولة بالمسلمين، كقول: (غزا المسلمون)، (قُتل من المسلمين كذا وكذا)، ونحو هذه العبارات، فإن هذا التعبير لا يلزم منه الحُكْمُ على الفريق الآخر بالكفر، فإنّ وصف جيش الإمام وجماعته وأهل العدل بالمسلمين في مقابل البغاة أو الخوارج قد جرى عليه كثير من المؤرّخين كما لا يخفى على الدكتور الدعيج، وله شواهد لا يسع المجال لذكرها، منها على سبيل المثال:
ما رواه ابن كثير عن يعقوب بن سفيان، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن عمران بن حدير، عن لاحق قال: (كان الذين خرجوا على عليٍّ بالنهروان أربعة آلاف في الحديد، فركبهم المسلمون فقتلوهم، ولم يقتلوا من المسلمين إلا تسعة رهط). [«البداية والنهاية» 9/204]
وفي رسالة أرسلها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن إلى أمير الكويت أحمد الجابر يخبره بما جرى في معركة «السبلة» والتي جرت بين الملك عبد العزيز والثائرين عليه من حركة الإخوان، قال فيها: (ولذلك قام المسلمون في التاسع عشر من الشهر الماضي بالهجوم عليهم، وقتلوهم، ولقّنوهم درساً مخيفاً). [«الإخوان السعوديون في عقدين» ص305].
فانظر إلى وصفه جيوش الدولة بالمسلمين في مقابل الخارجين عليه.
وقد تتابع مؤرخو تلك الحقبة كابن يوسف والفاخري وابن لعبون وابن بشر وغيرهم على التعبير عن جيش الدولة بجيش المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة:
فمن تاريخ الفاخري قوله: (وفي سنة 1176ه غزا المسلمون الإحساء) [ص139]، وقوله: (وفي سنة 1177ه غزا المسلمون جلاجل).
ومن تاريخ ابن لعبون قوله: (وفي سنة 1194ه سار جيوش المسلمين على أهل الزلفي)، وقوله: (وفي سنة 1195ه سار سعود بالمسلمين على الخرج).
ومن تاريخ ابن يوسف قوله: (وفي سنة 1168ه: فُضِّيَتْ حريملا يوم فَضْي المسلمين) [ص141].
ومن كتاب «كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب» لأحد مؤرخي نجد قوله: (فظفروا بقوم من المسلمين) [ص64]
ومن تاريخ ابن بشر قوله في حوادث سنة 1167هـ: (وفيها تضجر دهام بن دواس من الحرب بينه وبين المسلمين، وطلب من محمد بن سعود المهادنة والدخول في الدين وتجري عليه أحكام المسلمين). [1/67]، وقوله في حوادث سنة 1177ه: (وفيها غزا عبد العزيز بالمسلمين وقصد عربان سبيع) [1/91]، وقوله في حوادث سنة 1171هـ: (وفيها سار عبد العزيز رحمه الله بجنود المسلمين إلى سدير واستولى على بلد الحوطة). [1/78].
ثالثاً: لا يخفى أن وصف ابن غنّام لأهل بلد بالردّة مثلاً، كقوله: (ارتدّ اهل حريملاء) أو (أهل القصيم)، ونحو ذلك، سواء أريد به الارتداد عن الإسلام، أو عن البيعة، لا يستلزم وصفَ جميع أهل البلد بذلك، وانسحابَ الحكم عليهم جميعاً بأشخاصهم، وإنما يُنسب الحكم لأهل النفوذ والسلطان خاصة، إذ من المعلوم أنّ نَكْثَ البيعة مثلاً أو الردّة عن الإسلام لم يقع من جميع أهل البلد أو الناحية، وإنما وقع من ذوي السلطان والأَمْر فيهم، وهذا أمرٌ معلوم لا يخفى على علم الدكتور الدعيج، فقول ابن غنّام (ارتدّ اهل القصيم) ونحوها من العبارات إنما عنى به أصحاب الأَمْر والنفوذ، ولا يلزم أن يعني به جميع سكان البلد وعامة أهلها، ما لم يُظهروا الرضى والقبول. ومثل ذلك: الحُكمُ على بلدٍ بكونها: بلدَ إسلامٍ أو كفرٍ أو حربٍ أو عهدٍ، ونحو ذلك، فإن هذه الأحكام متعلقة بذوي السلطان والأَمْر على نحو ما هو مفصّل في كتب الفقه، فحُكمُ أهل العلم على بلدٍ مثلاً بكونها بلدَ كفر لا يلزم منه الحكمُ بالكفر على جميع من فيها، وهكذا الحال في حكمهم على بلد بالردّة أو نقضِ العهد.
رابعاً: مما ينبغي التنبيه عليه أنّ من حَكَم عليهم ابن غنّام وغيره بالردّة عن الإسلام من أهل القرى والنواحي، لا يلزم أن يكونوا واقعين في الشرك في العبادة بخصوصه، إذ إنّ أسباب الكفر وموجباتِ الردّة ليست محصورةً في الشرك بالله، بل هي كثيرة متنوعة ما بين اعتقادات وأقوال وأفعال، وهي مذكورة في أبواب الردّة من كتب الفقه، قد اختار منها الإمام محمد بن عبد الوهاب أكثرها وقوعاً في رسالته المعنونة بـ «نواقض الإسلام» حتى عدّ منها عشرة.
فمن نواقض الإسلام وموجبات الردّة على سبيل المثال: عدمُ البراءة من الشرك والمشركين، كعدم اعتقاد بطلان الشرك، أو الرضى به، أو محبته ونحو ذلك، وهو المعبّر عنه بالكفر بالطاغوت، ومنها: مناصرةُ المشركين على المسلمين ومظاهرتُهم بما يستلزم ظهورَ الشرك وأعلامِه وتثبيتَه وطمسَ التوحيد وقمعَ أهله، ومنها: الفرحُ بظهور الشرك على التوحيد، وبانتصار المشركين على الموحّدين، ومنها: مدحُ الشرك والثناءُ على أهله لأجله ولو بالقول، ومنها: سبُّ دعوة التوحيد وتضليلُ أهلها لأجله، ونحو ذلك من النواقض، فمن حُكِمَ عليهم بالردّة عن الإسلام في ذلك الوقت من الطوائف والأشخاص فلأجل وقوعهم في ناقضٍ من نواقض الإسلام لا يلزم أن يكون شركاً.
وقد نبّه الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- على هذا الأمر، لمّا ظنّ بعض الناس في وقته انحصار الكفر في الوقوع في الشرك بعبادة الأضرحة والمقامات، فادّعوا براءتهم من الكفر بكونهم لم يعبدوا قبراً، ولم يستغيثوا بغائب، فقال في حقّ أهل القصيم:
(وأهل القصيم غارّهم إِنْ ما عندهم قبب ولا سادات، ولكنْ أَخبِرْهم أنّ الحبّ والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دينٌ إلا بها… وكذلك الشرك إِنْ كان ما أبغض أهله مثل بغضِ من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه تركُ الشرك). [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» 6/322]
قلت: قوله: (غارّهم)، أي: اغتروا وظنوا أن خُلوّ بلدتهم من القباب والسادة الذين يُعتقد فيهم وتُصرف لهم بعض أنواع العبادة، يعني: سلامتهم من الكفر وبراءتهم منه، فنبّههم الشيخ أنّ تَرْكَ الشرك مع عدم بغضه والبراءة منه ومن أهله لا ينفعُ العبدَ، ولا يثبتُ به إسلام، إذ لا يكون تاركُ الشرك مسلماً حتى يتبرأ من الشرك وأهله ويبغضَهم لأجله، فكيف إذا اجتمع مع عدمِ بغضِ الشرك والبراءةِ منه: نصرةُ أهله على أهل التوحيد، أو مدحُهم على ما هم عليه من الشرك، أو تثبيتُهم عليه، أو سبُّ دعوة التوحيد وتحذيرُ الناس منها، فهل يمكن أن يبقى من الإسلام بعد ذلك شيء؟!
قلت: مما يؤكد حال أهل القصيم في تلك الأوقات خاصة، ويبيّن موقفهم من دعوة التوحيد: ما جرى منهم سنة 1196هـ، وهي الحادثة التي تعرف بالتاريخ بـ«ذَبْحة المطاوعة»:
قال الفاخري في تاريخه عن هذه الحادثة: (وفي سنة 1196ه ذَبْحةُ المطاوعة) [ص149].
وهي أن أهل القصيم عزموا على نقض العهد وكاتبوا أمير الإحساء سعدون بن عريعر للقدوم عليهم، وتعاهدوا على قتل معلّمي التوحيد وأئمة المساجد خاصة، وقد كان هؤلاء المعلمون أرسلهم الإمام لتعليم أهل القصيم التوحيد.
قال ابنُ لعبون في تاريخه: (وفي سنة 1196ه أقبل بنو خالد على القصيم، وانقلبوا عن الدين -أي: أهل القصيم-، وقتلوا من عندهم ممن ينتسب إلى الدين -يقصد: دعوة التوحيد-). ثم سمّى ابن لعبون رجالاً من أئمة المساجد والمعلمين. [ص194]
وقال ابن بشر في تاريخه في أحداث سنة 1196ه: (وفيها أجمع أهل القصيم على نقض البيعة والحرب، سوى أهل بريدة والرس وتنومة، وقَتَلوا كلَّ من ينتسب إلى الدين عندهم- يقصد بالدين: دعوة التوحيد التي دعا إليها الإمام محمد بن عبد الوهاب- ، خصوصاً المعلّمين الذين يعلّمونهم أحكام الشريعة… فحين قَرُبَ -أي: سعدون بن عريعر- من القصيم، قام كل أهل بلد فقتلوا من عندهم من العلماء المعلّمة… وحين نَزَل -أي: سعدون بمن معه من أهل الإحساء- بريدة أرسل إليه أهل عنيزة على سبيل الإكرام والامتثال من كان عندهم من معلّمة الدين، وهما عبد الله القاضي وناصر الشبيلي، وقالوا: هذان كرامة لك، وهدية منا إليك، فقتلهما سعدون صبراً). [«عنوان المجد» 1/145-146]
ومما يوضّح موقف أهل القصيم من دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في تلك الأوقات: أنّ عبد الله بن عيسى المويس، وهو من خصوم الدعوة المشاهير من أهل حَرْمة، ذهب إلى أهل قبة الكوّاز وعَبَدَتِه، يثبتُهم على ما هم عليه من الشرك، ويحذّرُهم من دعوة التوحيد، ويُكفّرُ الإمام محمد بن عبد الوهاب على دعوته للتوحيد، فقال الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته لأحمد بن إبراهيم معلقاً على هذه الحادثة:
(وصار هذا -أي: ذهاب المويس إلى عبّاد القبور وتثبيتهم عليه- عندك وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه). [«مؤلفات محمد بن عبد الوهاب» 6/205]
فانظر كيف اعتبر أهلُ القصيم وغيرهم تثبيتَ عُبّاد القبور والأضرحة على شركهم، ومدحَهم، والثناءَ عليهم، فضيلةً ومنقبة؟!
وقد أفَضْتُ في ذكر الأمثلة على مثل هذه الأفعال في «السلسلة التأصيلية في بيان حقيقة الدعوة الإصلاحية».
وقد قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته لأهل مكة: (ولا نُكفّر إلا من بلغته دعوتنا للحق، وَوَضَحَتْ له المحجّة، وقامت عليه الحجّة، وأصرّ مستكبراً معانداً، كغالبِ من نقاتلهم اليوم، يُصرّون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر والمحرمات، وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته من هذه حاله، ورضاه به، ولتكثير سواد من ذُكِر، والتأليب معه، فله حينئذ حكمه في قتاله). [«الدرر السنية» 1/243]
فذَكَر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- صنفين ممن قوتلوا وقتها:
الأول: من أصرّوا على الشرك بعد بلوغ الحجة، وامتنعوا من فعل الواجبات، وتظاهروا بفعل الكبائر، وهم الغالب.
والثاني: من ناصروا الصنف الأول، وذبّوا عنهم.
خامساً: أن المكفِّرات وموجبات الردّة عن الإسلام؛ الاعتقادية منها أو القولية أو الفعلية، لا يشترط في الحكم على فاعلها بالردةّ أن تكون قطعيةً مجمعاً عليها، فإن العلماء قد اختلفوا في بعض المكفِّرات، منهم من يعدُّها كفراً توجب ردَّة فاعلها، ومنهم من لا يرى ذلك، كاختلافهم في تارك الصلاة كسلاً، ونحو ذلك، وهذا لا يَخرُج عن كونه من المسائل الخلافية الاجتهادية، والقاضي إذا حَكَم في هذه المسائل وجب عليه أن يحكم فيها بما أداه إليه اجتهاده، وعلى هذا، فكل من حَكَم بالردّة في المسائل المختلف في كونها ردّة بناءاً على ما أداه إليه اجتهاده لا يجوز أن يوصف بالغلو والتشدد، فضلاً عن وصفه بالبدعة والضلالة والخارجية.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني -رحمه الله-: (وقد جرى العلماء في الحكم بالردّة على أمور، منها ما هو قطعيّ، ومنها ما هو ظنّي، ولذلك اختلفوا في بعضها، ولا وجه لما يتوهمه بعضهم أنه لا يُكفَّر إلا بأمرٍ مجمع عليه). [«رفع الاشتباه» ص941]
وعلى هذا، فلا يتوجه النقد على ابن غنّام أو غيره من العلماء في حُكمِه على شخص أو طائفة بالردّة في المسائل المختلف فيها بناءاً على ما أداه إليه اجتهاده، فإنه كان من أهل العلم والاجتهاد، شريطة ألا تخالف نصاً أو إجماعاً.
سادساً: قد وقع في كلام الدكتور الدعيج ما يخالف نقدَه لابن غنّام، ويؤكد صحة وصفِ ابن غنّام وخطأ نقده له، فبينما ينتقدُ الدعيجُ ابنَ غنّام في وصف بعض المخالفين بالردّة، ويسخرُ منه، نراه يذكرُ في بعض الوقائع أنّ تقسيم الغنائم قد جرى حسب القسمة الشرعية، خُمُسُه للدولة، وأربعة أخماسه للمقاتلين، ولا يخفى أن الغنائم لا تُشرع إلا في أموال الكفار خاصة، وأما أموال البغاة أو أموال المسلمين المقتتلين على الملك ونحو ذلك فلا يجوز أن تُخمّس، ولا تُملّك للمقاتلين، فنقدُ الدعيج لابن غنّام في الحكم على أهل ناحية أو قرية بالردّة، ثم ذِكرُه تخميسَ الغنائم من قِبَل الإمام عبد العزيز أو غيره، مع إقرار العلماء على ذلك في وقته نوعُ تناقضٍ منه لم يتفطّن إليه الدكتور الدعيج، فإنّ تخميس الغنائم على نحو ما ذَكَرَ ما هو إلا تأكيدٌ لصحة حكم ابن غنّام.
سابعاً: فرّق الدكتور الدعيج بين عبارات متماثلة في المعنى، فبينما ينتقدُ ابنَ غنّام في قوله عن أهل ناحية: (بايعوا على الإسلام)، نراه يُقرّ قول ابن بشر فيهم: (بايعوا على دين الله ورسوله)، ولا فرق بين العبارتين، فإن معناهما ومؤداهما واحد، وإنما التغاير في اللفظ والتعبير فقط لا في المعنى والمدلول، فليتأمل!
ثامناً: أكثرَ الدكتور الدعيج من نقد ابن غنّام في وصف بعض المخالفين بالردّة، وسخر منه، ثم أراد أن يرفع هذا النقد بالترحّم عليه بقوله: (الله يرحمك يا ابن غنّام)، والاعتذار له بقوله: (كان شديداً على المخالفين)، وهذا الاعتذار غير مقبول، ولا يرفع النقد، لأنّ الغلوَ بتكفير المسلمين بلا بينة ولا برهان، كما هو قول الدكتور الدعيج في أحكام ابن غنّام، ليس شدّةً فحسب، بل ضلالة وبدعة ومروق من السنّة، وهو مذهب الخوارج الذي يكفّرون المسلمين بغير حق، ويستحلون دماءهم، وعلى هذا، فنقدُ الدكتور الدعيج ابنَ غنّام على تلك الأحكام يقتضي الحكمَ على ابن غنّام بالخارجية والبدعة والضلالة، وذلك لكونه كفَّرَ من لا يجوز تكفيرهم -حسب ادّعاء الدعيج-، هذا أولاً، ولاستحلاله دماءهم ثانياً، بل هذا الوصف والحُكم يَصْدُقُ على كلِّ من أقرَّ تاريخ ابن غنّام، وقَبِلَه، وأوصى به من أئمة الدعوة وغيرهم إلى يومنا هذا، فيكون مقتضى نقدِ الدكتور الدعيج: أنَّ الدعوة الإصلاحية دعوةٌ خارجية تكفيرية، وهذا ما رسخ وللأسف في أذهان بعض المستمعين لسلسلته المشار إليها.
تاسعاً: أن الخوض في تفاصيل ما جرى من الصراع والقتال في تاريخ الدعوة الإصلاحية عبر سلسلة مسموعة متاحة لكل أحد، بحيث يسهل الاستماع إليها من كل أحد عالماً كان أو جاهلاً، كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو أمرأة، سنياً أو بدعياً، حتى وإن خلت عما أشرتُ إليه آنفاً من الانتقادات، فإنه يضرّ الدعوة ولا ينفعها، وقد يفتح الباب للمخالفين لنقدها والقدح فيها، وإثارةِ النعرات الطائفية والتعصب للقبائل والبلدان، لأن هذه الأحداث لها تفاصيل كثيرة، ولها أسبابٌ قد يَعسُر ذِكرُها، فضلاً عن شرحها وتحليلها وذِكرِ قواعد الشرع فيها، وهذا قد يُفضي إلى أن يظنّ المستمعُ الجاهلُ أنّ الدعوة موصوفةٌ بالغلوَّ والمبالغة لعدم تصوِّرِه تفاصيل جزئياتها واستيعابه لها، أو على أقل الأحوال أنْ يعتقدَ أنَّها على غرار الدول التي تسعى لبسط نفوذها على من جاورها دون أن يكون الصراعُ صراعاً دينياً، ولا الجهادُ جهاداً شرعياً، ولعلّ هذا يُشبه من وجه نهيَ علماء السلف عن الخوض فيما جرى بين الصحابة -رضي الله عنه- ووجوب الإمساك عنه، لِما قد يُفضي إليه من سوءِ الظنّ بالصحابة، بسبب عسر استيعاب أسباب الأحداث التي جرت بينهم رضي الله عنهم أحياناً، وقد يطول شرح تفاصيلها، ويَضْعُفُ تصوّر بعض الناس عن التماس العذر الشرعي للصحابة فيما جرى بينهم لغلبةِ الجهل وقلةِ العلم في أكثر الناس، وضعفِ النفوس واستحكامِ الهوى، ولغير ذلك من الحِكَمِ والأسباب.
وفي الختام، فأني أدعو الدكتور الكريم إلى مراجعة مواقفه وآرائه بهذا الخصوص، وإلى حذف هذه السلسلة من اليوتيوب، والاكتفاء بذكر موجز عن الدعوة في محاضرة أو محاضرتين، مع عدم التعرض لانتقاد ما صدر من أحكام على تلك الأحداث.
والله أسأل أن يوفقنا وإياه لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا من أنصار الحق وأعوانه.
والله أعلم، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الكويت، 12 جمادى الأولى 1441هـ