الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فقد أشاع عني بعض الناس هداهم الله أني أزعم أن الحسين بن علي وعبد الله الزبير رضي الله عنهما من البغاة، وأنا أبرأ إلى الله تعالى من ذلك، فإن الذي أعتقده هو ما عليه أهل السنة والجماعة وهو أن الحسين بن علي بُغي عليه حتى قُتل مظلوماً شهيداً رضي الله عنه، فإنه لم يبايع يزيد بن معاوية بل ظل معتزلاً في مكة حتى تتابعت عليه كتب أهل العراق تطلب منه القدوم عليهم، فخرج إليهم متأولاً ظناً منه أن الناس يطيعونه، وقد حاول جمع من الصحابة رضي الله عنهم أن يثنوه عن مراده وأشاروا عليه ونصحوه بعدم الخروج إلى أهل العراق، إلا أنه أصر على ما أراد فخرج متأولاً، فلما تبين له انصراف الناس عنه رجع عما عزم عليه وترك طلب الإمارة، طالباً إما الذهاب إلى يزيد ليبايعه أو الذهاب إلى ثغور المسلمين للجهاد أو الرجوع إلى بلده، لكن أبى عليه جيش الكوفة إلا أن ينزل على حكمهم ثم يرون فيه رأيهم، فأبى عليهم حتى قاتلوه فقتلوه مظلوماً شهيداً رضي الله عنه.
وكيف يُتصور أن يكون باغياً وقد رجع عما عزم عليه وأراد الدخول في بيعة يزيد، فهو لم يقاتل يزيد أصلاً.
وقد ذكرت قصة خروجه ومقتله مظلوماً كاملة في خطبة مثبتة في موقعي في الشبكة، ونشرها بعض الإخوان في بعض وسائل التواصل الاجتماعي.
وسبق أن أشرت إلى هذا في كتابي «حقيقة الخوارج في الشرع وعبر التاريخ» ص44، وهو موجود في الموقع.
وأما عبد الله بن الزبير فإنه لم يخرج على يزيد بل كان ممن أشار على الحسين بعدم الخروج إلى أهل الكوفة، إلا أنه بقي معتزلاً حتى توفي معاوية بن يزيد ولم يستخلف أحداً، فبايع عامة المسلمين في الأمصار عبد الله بن الزبير على الخلافة ما خلا الأردن، فصار الخليفة على الصحيح، ثم بغى عليه مروان بن الحكم وبنوه حتى أخذوا ما تحت يده من البلاد إلى قتلوه رضي الله عنه في مكة.
فعبد الله بن الزبير مبغيٌ عليه لا باغٍ.
وقد استند المثيرون والمشيعون عني أني أصف الحسين وابن الزبير بالبغي على تسجيل صوتي لي ذكرت فيه جواباً على من استدل بجواز الخروج على أئمة الجور بفعل الحسين وابن الزبير وغيرهم من أهل العلم والصلاح، فأقول جواباً عليهم: إني لم أصف الحسين رضي الله عنه بالبغي ولم أقل أنه باغٍ، وإنما ذكرته في جملة من يُحتج بخروجهم كالذين كانوا مع ابن الأشعث والنفس والزكية وغيرهم، وبينت أن غاية فعلهم أن يكون بغياً لا خروجاً، فكان الكلام لأجل التفريق بين البغي والخروج، وإلا فإن الحسين رضي الله عنه لم يقاتل يزيد ولم يفعل ما عزم عليه، فكيف أصفه بما لم يقع منه، بخلاف ابن الأشعث والنفس الزكية ومن معهم فإنهم قاتلوا وفعلوا ما عزموا عليه، فكان وصف البغي يُراد به من وقع منه البغي دون من لم يقع، فكان الخطأ في الإجمال في العبارة، وإني أستغفر الله من ذلك، وأبرّأ الحسين رضي الله عنه من أن يكون باغياً.
على أن الحسين رضي الله عنه لم يكون ممدوحاً في خروجه، فإن ما قصده من المصلحة لم يحصل منه شيء، بل كان خروجه سبباً لشر عظيم.
قال ابن تيمية [منهاج السنة 4/316]: (ومن تأمل الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، واعتبر أيضاً اعتبار أولى الأبصار علم أن الذي جاءت به النصوص النبوية خير الأمور، ولهذا لما أراد الحسين رضي الله عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتباً كثيرة أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين كابن عمر وابن عباس وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج وغلب على ظنهم أنه يُقتل، حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله من قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، ومصلحة المسلمين والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطيء أخرى، فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتلوه مظلوماً شهيداً، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء بل زاد الشر بخروجه وقتله ونقص الخير بذلك وصار ذلك سبباً لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمداً أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله إن «ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»، ولم يثن على أحدٍ لا بقتال في فتنة ولا بخروج على الأئمة ولا نزع يد من طاعة ولا مفارقة للجماعة).
ثم قال بعد ذلك ذاكراً قاعدة عظيمة [4/326]: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم: أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوعٌ من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين؛ طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعُظِّم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه، ويُبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم).
أما عبد الله بن الزبير فإنما ذكرته أولاً في سياق احتجاجهم به لا على سبيل الإقرار، ولذلك قلت «إن صح خروجه».
وبعد هذا البيان والتوضيح فأختم بمسائل تتعلق بمصطلح «البغي»، إذ أن هؤلاء المثيرين فهموا من وصف البغي: الذم والقدح والازدراء فاستعظموا ذلك، والصحيح أن أهل البغي في مصطلح الفقهاء في باب الجهاد من كتب الفقه، يراد بهم «الطائفة الخارجة على الإمام الذي تجب طاعته بتأويل سائغ».
قال ابن قدامة في المغني في كتاب أهل البغي: (الخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة: … إلى أن قال: (الصنف الرابع : قوم من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم).
وقال ابن تيمية في تعريف أهل البغي [جامع المسائل 6/41]: (وهم الخارجون بتأويل سائغ).
وأهل البغي قد يكونون متأولين معذورين، فيكونون من المجتهدين المخطئين، ولا يلزم من ذلك القدح فيهم، ولا الانتقاص منهم، ولا الحط من مكانتهم.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفئة التي تقتل عماراً بالفئة الباغية، في قوله: «ويح عمار، تقتله الفئة الباغية» رواه مسلم، وفيهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وغيرهم رضي الله عنهم.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (3/265): (وقد كان عليٌّ أحق بالأمر من معاوية. ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 6/88]: (وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: «تقتل عماراً الفئة الباغية» فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين. فمعاوية وأصحابه بغاة لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان، كما ظن طلحة والزبير يوم الجمل ومعهم عائشة رضي الله عنها لكن لم يصيبوا، فلهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب).
فهذا النوع من البغي قد يقع فيه الأفاضل من أهل الصلاح والأئمة، ولا يلزم منه القدح فيهم.
قال ابن تيمية [جامع المسائل 4/61]: (والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.
فتدبَّرْ العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ لهانت القضيةُ، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بُغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يُعرِضون عن تصور بَغْيِهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متأولين، بل كانوا ظلمةً ظلمًا صريحًا، وهم البغاة الذين لا تأويل معهم.
وهذا القدر من البغي بتأويل، وأحيانًا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعًا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة.).
وقال أيضاً [مجموع الفتاوى 4/437]: (ورواه مسلم أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تقتل عمارا الفئة الباغية». وهذا أيضا يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار – وإن كان متأولا –، وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولا، أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين. وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين قال: أيُجعل طلحة والزبير بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام: يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة).
وقال أيضاً [4/226]: (فإن البغي إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهداً، ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تٌفسّق واحدة من الطائفتين وإن قالوا في إحداهما إنهم كانوا بغاة لأنهم كانوا متأولين مجتهدين، والمجتهد المخطىء لا يُكفّر ولا يُفسّق، وإن تعمد البغي فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين وغير ذلك).