الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فلقد وجه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق نداءاً لعلماء الأمة الإسلامية وقادتها عنونه بـ «انصروا شعب مصر» يدعوهم فيها إلى وجوب السعي في إعادة حاكمها المعزول والجهاد في سبيل ذلك، ولما كان البيان قد احتوى على مخالفات شرعية منهجية، كان من اللازم بيان هذه المخالفات والتنبيه عليها لتُحذر، وليس المقصود الخوض فيما يجري الآن في مصر -وقاها الله الفتن-، وإنما المقصود هو بيان ما خالف الشرع في بيان الشيخ من منظور شرعي.
وستكون التعقبات مختصرة من خلال النقاط التالية:
أولاً: أوجب الشيخ الجهاد على علماء مصر لإعادة تنصيب حاكم عُزل، ولم يكتف بذلك بل جعله فرض عين لا يجوز التخلف عنه، وهذا حكم باطل مخالف للكتاب والسنّة والإجماع، فأين في كتاب الله تعالى، أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو في عمل الصحابة والسلف وجوب الجهاد لإعادة سلطانِ إمامٍ عُزل، سواءٌ كان عزله بحق أم بغير حق، وسواءٌ كان بقتال أم بغير قتال.
فإن الجهاد المشروع هو لإعلاء كلمة الله وشرعه، أو دفاعاً عن المال والنفس والعرض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، وقال: «من قتل دون ماله فهو شهيد».
وقد جرت عبر تاريخ المسلمين صراعات كثيرة على الملك، عُزل خلالها حكام كثيرون، وتولى في كثير منها من هو شرٌ ممن عُزل، ومع ذلك لم يأمر أحد من العلماء قط بوجوب الجهاد لإعادة الحكم لحاكم عُزل، بل اجتنب العلماء جميع ما جرى من الفتن على الملك، ورأوا الدخول فيه فتنة.
وها هو عثمان رضي الله عنه البار الراشد يمنع المسلمين من نصرته ضد من ثار عليه من المفسدين فيلتزم الصحابة والمسلمون ما أمرهم به، فلو كان الجهاد واجباً عليهم حينها لم يحل لهم التزام طاعته في ذلك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إلى أن انتهى الأمر بقتله رضي الله عنه، فكيف بمن هو دونه من الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة.
وقد أجمع المسلمون على وجوب طاعة الإمام المتغلب إذا استتب له الأمر، كما نقله غير واحد من العلماء، مستندين إلى نصوص النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد»، ومعلوم أن العبد مملوكٌ يباع ويُشترى، ومع ذلك فلو تغلّب على الناس، وعزل حاكماً حراً عالماً مجتهداً قرشياً، لم يمنع ذلك من وجوب طاعته، وصار إماماً للناس له ما للإمام من الحقوق بنص النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
فكيف إذا كان الحاكم المعزول لا يحكم بما أنزل الله، بل يحرف مدلولات الشريعة والحكم بما أنزل الله؟ فهل يُتصور القول بوجوب الجهاد لإعادة تنصيب مثل هذا ؟؟
ثانياً: ادعى الشيخ أن من مات في سبيل إعادة تنصيب الحاكم المعزول المنتخب فإنه يموت شهيداً، بل جعله من أعظم الشهداء مستدلاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»، وهذا لا شك نوع من التحريف لمدلولات النصوص الشرعية، وتنزيلٌ للنصوص على خلاف واقعها، فإن هذا الشهيد المذكور في الحديث هو من قام بين يدي حاكم يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر في الشرع، لا من قام إلى إمام يأمره باحترام الدستور، والتزام القوانين الوضعية، هذا من وجه، ومن وجه آخر أن الحديث فيمن قام عند الإمام وبين يديه، لا من قام عليه بالثورة والخروج والقتال والفوضى وسفك الدماء وتعطيل المصالح، فليس في الحديث لا من قريب ولا من بعيد ما يدل على جواز الثورة والمظاهرات والخروج في تجمعات واحتشادات، بل جاءت النصوص المستفيضة بالنهي عن ذلك، وبوجوب السمع والطاعة والصبر على جور الحكام، واعتزال الفتن الدائرة بينهم، حتى بلغ أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض المتغلبين على المسلمين بقوله: «وسيكون فيهم ولاة قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، ومع ذلك أمر بالصبر والسمع والطاعة في غير معصية الله.
ثالثاً: أنكر الشيخ عفا الله عنه أن يكون الخروج والثورة لإعادة تنصيب الحاكم المعزول فتنة، بل عده جهاداً، وجعل القعود عن هذا الأمر هو الفتنة، وهذا قلبٌ للحقائق والمدلولات الشرعية، فإن الفتنة تعم كل أمر تضطرب فيه قلوب الناس وتختلف فيه كلمتهم، وكذلك كل قتال على ملك، أو رئاسة، أو لعصبية، أو قتال يكون تركه خيراً من فعله فهو قتال فتنة.
قال ابن تيمية: (وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلان أو طائفتان على ملك أو رئاسة أو على أهواء بينهم، …، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة ينهى عنه هؤلاء وهؤلاء).
وقال أيضاً: (إن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان، إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحيانا هي التآلف بالمال والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة ولم تكن حاصلة كان الترك في نفس الأمر أصلح، ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته: علم أنه قتال فتنة).
والشيخ عفا الله عنه جعل الفتنة هو الأمر الذي لا يتبين فيه وجه الحق، وادعى أن الأمر الذي يدعو إليه إنما هو حق وباطل، وهذا عليه مؤاخذات.
منها: أن الأمر قد يتبين فيه وجه الحق، لكن قد تكون مفسدته أعظم من مصلحته فيكون فتنة، فليس كل ما تبين فيه وجه الحق يخرج عن أن يكون فتنة، بل الفتنة إما اختلاط الأمور وعدم تميزها، وإما لما يترتب على القيام بالحق فيها مفاسد أعظم، وإما صراع على دنيا، ومن هنا جاءت الأحاديث المستفيضة بالصبر على جور الولاة، والصبر على ولاية من لم يستجمع شروط الولاية، ولو وُجد من هو خير منه.
ومنها: أن مراد الشيخ بالحق والباطل في كلامه، ليس هو الحق والباطل بالمنظور الشرعي، وإنما الحق والباطل بالمنظور الوضعي الدستوري، فالحق عنده هو إعادة تنصيب الحاكم المنتخب، والباطل هو عدم التزام الدستور وإزاحة الحاكم المنتخب، وهذا نوع من تحريف مدلولات النصوص الشرعية، وتنزيلٌ لها على غير موضعها.
هذه بعض المؤاخذات على كلام الشيخ عفا الله عنه، وإلا فإن الردّ عليه قد يحتاج إلى مزيد بسط لا سيما أن بيانه يدعو إلى فتنة عمياء صماء بكماء، لكن حسبنا ما أشرنا إليه.
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم